قد يجوز السكوت على كثير من خطاياه في حقّ الدولة والشعب، وقد يُقبل مزيدُ احتمال ما يرتكبه في حقّ الجميع من أذى، فنحن شعوب جُبلت على احتمال أذى حكّامها من القدم، ولكن لم يعد من المقبول ولا من المعقول إقحامُهُ للمؤسّسة العسكريّة في صراعاته مع خصومه.. ليس هو الدولة ولا هو الشعب.. هو رئيس لمؤسسة من بين المؤسسات وله من الشعب أنصار وله بينه خصوم..
وهو ليس أرفع شأنا من الأنبياء الذين لم ينجحوا في إكراه الناس حتّى يكونوا جميعا مؤمنين بهم.. وليس أنصاره أكثر وطنيّة من خصومه ولا أشدّ منهم حرصا على الدولة ومصالحها ولا أكثر احتراما للمؤسسة العسكرية التي ظهر يمجّدها كما لو أنّ غيره يناصبها العداء.. هذا أسلوب شبيه بخلع لباب مفتوح.. وليس من اللائق بالمؤسسة العسكريّة استدراجها بمثل هذا الأسلوب لاحتكار ولائها..
الجيش الوطنيّ هو المؤسسة الوحيدة التي تلقى إجماعا بين التونسيين على إجلالها.. وما جلالُها إلّا من حيادها ووقوفها على المسافة نفسها من الجميع.. لقد كان بن علي أشدّ غطرسة، ولكنّه لم يستطع استعمال الجيش لحماية نظامه من ثورة الشعب.. وقف الجيش على الحياد فانتصر الشعب وهرب الحاكم المتسلّط..
ليس من حقّ أحد، كائنا من كان، أن يحتكر الجيش لنفسه كأنّه خالقه.. هذا يعدّ أمرا خطيرا قد يتسبّب في خراب الوطن.. الحكّام الذين نجحوا في استمالة جيوش دولهم لخدمة أنظمتهم وعروشهم أدخلوا بلادهم في حروب ساحقة دمّرت كلّ شيء…
الجيش الوطنيّ التونسيّ ليس من عقيدته الانخراط في الصراعات السياسيّة.. جميع الدول التي تحترم نفسها فيها حكّام ومعارضون، ولكن لا أحد من هؤلاء الحكّام عمد إلى استعمال القوات المسلّحة في صراعاته مع معارضيه.. هذا خطأ جسيم لم يعد من اللائق بالدولة أن تسكت عليه.
قيس سعيّد انتخبه الشعب التونسي ليكون رئيسا لجميع التونسيين خصومه الذين عليه إنصافهم قبل أنصاره الذين ليس له حقّ تفضيلهم.. ولكنّه رفض أن يكون رئيسا للجميع واختار أن يكون زعيما للفرقة الناجية ليلقي ببقية الشعب في النار. أما وقد اختار ذلك فلم يعد لائقا بأن يكون قائدا لقوات مسلّحة تقف من الجميع على المسافة نفسها.. الحكّام مؤقّتون مهما طال بقاؤهم أمّا الجيوش فمن ثوابت الدول.. ووجب صيانة الثوابت من تلف الحكّام.