رحم الله الرّفيق سقراط في محاورة "الكراتيل" يوصي تلميذه، وهو لايزال غِرّا ومُنهمكا في صراع مرير مع السفسطايين، " اياك ان تقع في شِرك اللغة، ان التّسمِية لا تُطابق الواقع، ان اللغة قد اسسها اله مخمور لذلك تترنّحُ بين القصد والخداع".
"الخيار الثالث" و"في كنف السيادة الوطنية". لنسأل اولا ماهو الخيار الاول وماهو "الخيار الثاني" حتى نعرف ان كان "الثالث" ثالثا فعلا: الاول هو عودة المؤسسات المُنتخبة من الشعب، وعودة المسار الدستوري والديمقراطي، وتشكيل حكومة تنال الشرعية من مجلس النواب حتى تكون مقبولة من العالم. ثم الذهاب الي انتخابات مبكرة في منتصف السنة القادمة. اما الخيار الثاني فهو مايسميه السيد الطبوبي ب"اجراءات 25"، اي تعطيل مجلس النواب وجمع كل السلطات في يد قيس سعيد. فماهو "الثالث" الذي يريده السيد الطبوبي والمكتب التنفيذي؟
علينا ان نعود قليلا الي الوراء: في 2013 كان الخيار الاول هو مواصلة المسار التأسيسي، ولم يظهر الخيار الثاني الا بعد اغتيالين: حوار وطني قاده المكتب التنفيذي انتج حكومة المهدي جمعة. من 2014 حتى 2019 لم يكن بالإمكان ظهور خيار ثان لان النداء يملك 86 نائب، والرئيس هو المرحوم الباجي، ورئيس مجلس النواب هو محمد الناصر ورئيس الحكومة هو الحبيب الصيد، الذي ساهم المكتب التنفيذي بتغييره بيوسف الشاهد من خلال "وثيقة قرطاج".
اما في 2019 ، وفي غياب كامل لحزب كبير يجمع المُكوّن الدستوري-التجمعي، وفي ظل انشطار الجبهة الشعبية، فقد قال السيد الطبوبي قُبيل الانتخابات "لن نُسلّم البلاد لكل من هب ودب". لقد كان "الخيار الثاني" حاضرا قبل الانتخابات. لقد كان المكتب التنفيذي، شانه شان قيس سعيد، يتربص بمجلس النواب ويبحث عن مبررات ل"الحوار" واعادة خلط الاوراق حتى يقوم بشطب التوازنات التي انتجتها الانتخابات.
وعلينا ان نذكر امرا مهما: الامتعاض الشديد الذي لاقى به المكتب التنفيذي حكومة الفخفاخ التي جمعت الشعب والتيار والنهضة.لقد كان يبحث عن مبرر "للحوار" وباي ثمن. ثم توالت دعوات الاتحاد الي الخيار "الثاني" غير ان قيس سعيد فكّر بطريقة اخرى: بإمكاني ان اقوم به وحدي وان لا أُشرِكَ بي احدا. قال جملة مُهمة ذات يوم متحدثا عن "25" " لقد قمت بهذا الامر وحدي ولم استشر احدا"، وهو مايعني "لا يُنازعني في الامر احد"، وماذا يقول السيد سمير الشفي؟ "نحن مع 25 ولكن اذا ما انتهج اطارا تشاركيا للاصلاح".
اذن ما هو "الخيار الثالث"؟
هو الخيار الثاني (انقلاب سعيد) بعد ان يتم تهذيبه فيكون مقبولا ممن دعموه: الشعب والاتحاد والتكتل والتيار، اي اعطاء نصيب لهؤلاء في الحكم (يسميه الشفي "الاصلاح"). انه التشارك تحت سقف الانقلاب وتحت سقف 117 : لا عودة للبرلمان ونعم لحكومة السيدة بودن.
لم يسبق سعيد المكتب التنفيذي في الخيار الثاني الا لسبب واحد: امتلاكه السلطة التنفيذية. ولكن تبقى مشكلة: عودة البرلمان اصبح مطلبا دوليا ترتبط به شرعية قيس سعيد وشرعية حكومته والمفاوضات مع المانحين الدوليين. هنا يجب اضافة بقية الجملة "خيار ثالث في كنف السيادة الوطنية". تعني "السيادة الوطنية" مايلي " نحن نمثل الشعب التونسي ونرفض ان تُفرض علينا عودة مجلس النواب"، انه خطاب موجه لامريكا واوروبا(باستثناء فرنسا).
سوف يتم تعويض مجلس الشعب المنتخب بالقوى "الوطنية" الحاضرة في الحوار، سوف تكون لهذه القوى مكانة وقوة المجلس التشريعي. انها حِيَل على الطريقة البروقراطية.ولكن المشكل قانوني فهل يمكن ان يقتنع العالم ويقع فك العزلة عن حكومة بودن اعتمادا على خزعبلات؟
للإجابة علينا ان نتذكر امرا مهما: زار السفير الفرنسي المكتب التنفيذي اربع مرات، في المرة الاخيرة زار كل من التيار والتكتل ونجيب الشابي والاتحاد، وحتى الحزب "الحاشم" من لقاءه وقع استدعاءه من طرف الطبوبي بعد يوم من لقاء السفير. في الموقع الرسمي للاتحاد تجدون الجملة التالية " التقى الاخ الامين العام سفير فرنسا وتناول اللقاء الوضع العام بالبلاد" -طبعا البلاد التونسية-.
تلتقي فرنسا مع هؤلاء في رفض عودة البرلمان، وفي الابقاء على حكومة بودن، وفي محاربة "الاسلام السياسي"، وفي عودة النظام الرئاسي، وفي برلمان شكلي على طريقة بن علي.وتتكفّل فرنسا بإقناع حلفائها بان "الخيار الثالث" هو ارادة الشعب التونسي وان الحوار له قوة المجلس التشريعي. وقيس سعيد؟ مصيره يحدده ما سيقوله يوم 17، اما ان يقبل الحوار فينضم الي الاجندة الفرنسية، او ان يهرب الي الامام فتتخلى عنه الاجهزة التي مازالت تشده الي الان.ولكن في الحالتين يكون قد انتهى.
على الديمقراطيين ان يستميتوا في رفض الاجندة الفرنسية ويدافعوا على الديمقراطية وعودة المؤسسات واجراء انتخابات سابقة لأوانها. لا يجب ان نترك الاتحاد وفرنسا والاحزاب الفاشلة يؤسسون سُنّة الانقلاب على نتائج الانتخابات. الخيار الفرنسي-النقابي يفتح الباب امام الانقلاب الثاني الذي سيكون اكثر "عقلانية": تشريك الاتحاد مع فصل شكلي للسلط وبرلمان لا يقرر شيئا.ان الامر يحسمه الشارع فلا تتخلوا عن الشارع. ليس هناك خيار غير احترام قرار الشعب واختياره، ماعدا ذلك انقلاب.