القربان

لم يعد خاف على أحد أن من أبرز القوى الاقليمية التي استند عليها انقلاب ٢٥ جويلية، الإمارات التي تدعمه بالتمويل و مصر التي تدعمه بالخبرة في إدارة الانقلابات. هذا ما كشفته الوثائق الاستخباراتية المسربة في إطار ما يبدو أنه موجة تصفية حسابات بين اجهزة امنية مصرية متصارعة لم تتوقف عند الشأن المصري الداخلي، بل تجاوزته لتشمل بلدان أخرى من ضمنها تونس.

جدير بالتنويه أن قيس سعيد وهو الذي عودنا على التعليق على كل شاردة وواردة في مواقع التواصل الاجتماعي لم ينفي رسميا هو ولا غيره حقيقة تلك التسريبات التي هي الآن محل تتبعات قضائية. كان باديا للعيان منذ الوهلة الاولى أن انقلاب ٢٥ جويلية في تونس هو من تدبير قوى داخلية و خارجية غير متجانسة لها اجندات متمايزة.

قيس سعيد بصفته قائد اوركاسترا الإنقلاب لم يستهدف لا في خطاباته ولا في إجراءاته حركة النهضة رأسا الا نادرا. فمن الواضح أن تغيير نظام الحكم وفقا لرؤيته القائمة على فكرة الديمقراطية التصاعدية هي في أعلى سلم اولوياته و استهداف النهضة رأسا هو في ادناها.

بعض ركائز الانقلاب وعلى رأسها وكلاء مصر و الإمارات لم يرق لها تأخر قيس سعيد في استهداف النهضة. هؤلاء لا تعني الديمقراطية لهم شيئا تصاعدية كانت أم غير ذلك، بل كانت تعنيهم حركة النهضة تحديدا بما هي امتداد في نظرهم لتنظيم الاخوان.

هم لم يكونوا يجهلون موقف قيس سعيد غير العدائي تجاه حركة النهضة غير أنهم كانوا يعوّلون على ردة فعل تصادمية من طرفها إزاء الإنقلاب كانت ستضع الرئيس أمام حتمية المواجهة الشرسة معها. غير أن استراتيجية النهضة في مواجهة الإنقلاب عبر الانحناء أمام العاصفة و فسح المجال لبقية القوى الديمقراطية لتصدر النضال أبطلت تلك المساعي. منذ 17 ديسمبر شهدت تونس مدا تصاعديا مشهودا للحراك الشعبي و الحزبي و النقابي و النخبوي ضد الإنقلاب.

ولقد كان جليا أن الجبهات الرافضة بدأت تتقارب و هي على وشك أن تتوحد مع تزايد إمكانية أن تكون النهضة جزءا من تلك الجبهة خصوصا بعد اللقاء التاريخي الأول من نوعه بين راشد الغنوشي و عز الدين الحزقي باعتبارهما قطبين من قدامى اقطاب النضال الديمقراطي التونسي بشقيه الإسلامي و اليساري.

هذه التطورات و مثيلاتها أحدثت تصدعا داخل جبهة الإنقلاب، خصوصا مع تصاعد عزلة الرئيس و اقتراب موعد ١٤ جانفي ذكرى اكتمال الثورة التونسية. و خرجت للعلن مؤشرات لذلك التصدع عبر تصريحات علنية لموالين للانقلاب محسوبين على الإمارات اصبوحوا يساومون الرئيس بضرورة الانقضاض على النهضة كشرط اساسي لمواصلة اسناده.

و من هنا جاء استهداف القيادي بحركة النهضة ووزير العدل سابقا نور الدين البحيري بصفته سمكة كبيرة طالما رُوجت بشأنها تهم الفساد و تركيع القضاء و الإشراف على ما سمي بجهاز الأمن الموازي. و اعتبارا لضغط الوقت و اقتراب موعد 14 جانفي، من ناحية و قصور التتبعات العدلية في ظل غياب القرائن من ناحية أخرى لم يكن لوزير الداخلية من بد أن يستعمل صلاحيات مكنه منها قانون لادستوري مهجور لاستعجال إلحاق الأذى بنور الدين البحيري عبر الاخفاء القسري استرضاء للأصوات المنادية باستهداف النهضة عاجلا لا آجلا.

طبعا، من الناحية الاجرائية البحتة، بما أن البحيري هو كبقية النواب ممنوع فعليا من السفر خارج البلاد، لم يكن هناك ما يستدعي التسرع في الإيقاف و عدم انتظار إجراءات التتبع العدلي في القضية المنسوبة إليه والتي هي بالمناسبة بعيدة كل البعد عن التهم المذكور أعلاه.

القضية تتعلق حسب معطيات الندوة شبه الصحفية (لم يسمح للصحافيين بطرح أسئلتهم فيها) بسوء تصرف اداري أو سوء تقدير ارتكبه البحيري وزيرا للعدل منذ ثمان أو تسع سنوات في خصوص تمكين أشخاص غير مؤهلين من وثائق ادارية يقتضي اصدارها و تسليمها مسارا اداريا طويلا و معقدا ربما يكون امضاء وزير العدل إحدى حلقاته المتعددة لكنها ليست الحاسمة فيه.

حتى أن وزير الداخلية في ندوته تلك لم يستعمل أي صيغة تربط بصفة مباشرة بين الوثائق المذكورة و بين المشتبه به. فهو أطنب في استعمال الأفعال المبنية للمجهول و استعمال صيغة المصدر من قبيل "تمكين أشخاص" و " تسليم وثائق" و "استخراج جوازات " دون ذكر دور المتهم على وجه التحديد في تلك العمليات الادارية التي هي في نهاية المطاف تؤول اما إلى رئاسة الجمهورية في حالة وثيقة الجنسية أو إلى وزارة الداخلية في حالة جواز السفر.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات