الشتيمة في اللغة كلام قبيح يصدر عن شخص بحق آخر بقصد السب والإهانة والتحقير. أما من حيث التعريف المفهومي فهي عدوان لفظي بقصد الإيذاء والحط من كرامة المشتوم. ولا تخلو ثقافة من ثقافات الشعوب من عادة الشتائم عند الغضب أو بدواعي السخرية وتأخذ في الغالب طابع العفوية. وليس عن شتيمة كهذه سأتحدث، بل عن الشتيمة بوصفها معلماً من معالم انحطاط القيم وشيوع قلة الحياء الأخلاقي والفقر المعرفي.
فالفرق بين الشتيمة كنوع من عادات الكلام وردود الفعل العفوية في ثقافة من الثقافات والشتيمة كسلوك موعى به لدى المختلفين في الفكر والسياسة والأيديولوجيا فرق في الوظيفة التي تؤديها الشتيمة.
حيث الأولى معبرة عن حالة تأفف سريع وبلغة شفاهية، كشتيمة يطلقها سائق بحق آخر كاد أن يصدمه، أو شتائم شجار بين فردين حول اختلاف عابر. إن وظيفة الشتيمة هنا وظيفة تنفيسية تخلق عند صاحبها نوعاً من الارتياح، وهي بديلة عن الشجار بالأيدي. وطريقة لفظ الشتيمة من هذا النوع ومضمونها وأثرها تختلف من ثقافة إلى أخرى.
أما الشتيمة من النوع الآخر فهي خطاب عدواني صادر عن أحقاد تمنع أية فرصة للحوار، بحيث يتحول الاختلاف إلى معركة بسلاح الكلام القبيح. والشتيمة هذه تعبر عن مستوى من مستويات انحدار الوعي.
والحق إن انتشار هذا النوع من الخطاب الشتيمي ذو علاقة عميقة بتدمير عالم القيم في مناخ الاستبداد السياسي والأيديولوجي، وفقدان المجتمع لأهم قيمة من قيمه الكلية ألا وهي احترام الإنسان والتراتبية المجتمعية.
فمع استمرار عملية تحطيم القيم المعشرية، وسيادة اللغة السوقية، لغة نفي للآخر، تنمو مع الأيام نزعة عدوانية رعاعية دفينة بحيث تشكل أحد أهم عناصر البنية النفسية التي ترعرعت في ظل الاستبداد وتحطيم القيم.
فالعدوانية كحالة نفسية وطريقة للتعامل بها مع المختلف تعبر عن ذاتها بخطاب الشتيمة التي هي صورة مجردة عن الرغبة في القتل. لأن الشتيمة في هذه الحال هي قطع الصلة مع الآخر قطعاً كاملاً.
وهكذا تعبر لغة الشتيمة في الخطاب السياسي والأيديولوجي، ليس عن حالة نفسية غضبية عابرة، بل عن نفسية عنفية تصل حد السادية الكلامية، ويتحول المثقف عندها إلى حالة رعاعية وليس إلى حالة ثقافية.
وتلك حالة من أكثر المفارقات غرابة، أقصد تحول المثقف إلى ظاهرة رعاعية عنفية سادية يتوسل الشتائم المقذعة وسيلة للتعامل مع المختلف.
وهذا يدل على الخطر المدمر والشنيع لعملية تحطيم القيم التي تجري على امتداد وقت طويل وصعوبة استعادة هذا العالم المدمر.
ولعمري إن قراءة متأنية للخطابات على صفحات التواصل الاجتماعي تدل على كيفية تحول خطاب الشتيمة السياسية والأيديولوجية نمطاً مألوفاً للتعبير عن الاختلاف، ومما يزيد من انتشار هذه الظاهرة أن الشاتم في مأمن من المشتوم جسدياً، كما إنه عبر اسمه المقنع والاختفاء خلفه يتصرف كشخص خفي لا يراه أحد.
ولهذا لا يعبر خطاب الشتيمة عن نفسية شجاعة، بل عن نفسية تخاف من مواجهة الآخر. بقي أن نقول إن خطاب الشتيمة لا يعبر عن عجز نفسي وأخلاقي فحسب وإنما عن عجز معرفي أيضاً وتعويض عن هذا العجز.
ففي الوقت الذي تتطلب فيه قضية ما نقاشاً فكرياً وسياسياً جاداً، ويتطلب هذا النقاش بدوره حظاً ضرورياً من المعرفة فإن الشاتم شخص تنقصه الحجة المعرفية ولا تتوافر لديه مفاهيم الحوار النظرية فيعبر عن فقره المعرفي والنظري والمفهومي بلغة الشتيمة. فيهرب إلى سد باب الحوار والتخلص من عجزه المعرفي ببضع كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع. وهكذا تكتمل دائرة سيكولوجيا المثقف الشتّام من العجز النفسي إلى العجز الأخلاقي إلى العجز المعرفي. وليس هناك مدعاة للسخرية أكثر من هذا العجز."