شئنا أم أبينا.. تونس في قلب استراتيجيات دولية حقيقية متشابكة ومعقدة. محاولة تفكيك هذه الاستراتيجيات هو من الشروط الأولية لفعل سياسي عقلاني مجدٍ ولو قليلا.. بل من شروط "الوطنية العاقلة".. لأن العكس هو سقوط حتمي في تغذية شعبوية مضادة لشعبوية سعيّد.. وتصب حتما في صالح تلك الاستراتيجيات الاستعمارية كلها وإن اختلفت في الوسائل والدرجة.
الفاعلون الآن في تونس :
الولايات المتحدة.. رغم ما يقال منذ سنوات حول اعتماد الديمقراطيين في أمريكا سياسة تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في الخارج منذ أوباما.. مرورا بالجمهوري الشعبوي ترامب، وصولا لبايدن الذي نفذ الانسحاب التاريخي من أفغانستان والذي تقرر قبله، رغم ذلك.. أمريكا شديدة الحضور والفعل في تونس.
باختصار حضورها ميداني عسكري مقنن باتفاقيات مع تونس ( آخرها مذكرة التفاهم السرية التي أمضاها محسن مرزوق مع جون كيري سنة 2015)، وعبر الزيارات السياسية والعسكرية الدائمة إلى تونس (سنة 2020 تقابل وزير الدفاع الأمريكي مع سعيد.. أواخر 2021 تقابل قائد الافريكوم مع قيادات الجيش التونسي).. وعبر سفارتها النشيطة جدا.
طبعا هذا هو الجانب الظاهر فقط من الحضور الأمريكي. الجانب السياسي الأهم هو عبر "توكيلات" موضِعية جزئية تكتيكية. أمريكا تفوّض لحلفائها في تونس مهام تقنية أحيانا. وأهم حلفائها فرنسا وتركيا. حليفان متناقضا المصالح والرهانات، ولكن أمريكا تدير تناقضاتهما ميدانيا.
قلت منذ الانقلاب أن أمريكا سمحت لفرنسا ببعض الحرية في تونس بعد خسارتها لليبيا لصالح تركيا. أمريكا تتفهم آليات العقل الفرنسي الثقافوي الكلاسيكي، وتسمح لها بتغذية وهم المستعمر القديم المتفوق ثقافيا.. ولكنها لا يمكن أن تسمح لها بتسليم شمال افريقيا ومنه تونس لروسيا والصين.. عدوّاها الاستراتيجيان. لذلك قلت سابقا أن يد المخابرات الروسية في الانقلاب التونسي وقبله في الانتخابات.. شبه ثابتة عندي.
لا ينفي هذا أن التنفيذ من عمل غرفة إقليمية/دولية ذكية بما يكفي لاستدراج/إرضاء/تشريك الغرور الفرنسي. غرور تبيّن مع الوقت أنه يوشك أن يغير الخرائط الاستراتيجية في شمال افريقيا (فتح باب الوجود الروسي في تونس بعد أن صار حقيقة ميدانية في ليبيا ومالي وافريقيا الوسطى وبوركينا فاسو...) ممّا استدعى تداركا أمريكي و/ثم فرنسيا.
هذا التدارك هو ما نعيشه الآن : العمل على استعادة الانقلاب كليا من دون شراكة عبر الضغط المالي والسياسي/"الحقوقي".
منع التمويل الخليجي للانقلاب يأتي في هذا السياق. الخنق المالي الممنهج للانقلاب بهدف فرض اتفاقيات مالية/سياسية مع صندوق النقد.. أي الاستقرار تحت المظلة الأمريكية.
هنا أيضا نفهم الموقف الأوروبي والأمريكي من مختلف المبادرات السياسية المعارضة للانقلاب : الاحتواء والتسويف والتهرئة والتوظيف التكتيكي.
استراتيجيا، أمريكا وفرنسا وكل أوروبا ضد الديمقراطية في تونس. البيانات الأمريكية المتواترة حول ضرورة العودة إلى المؤسسات صدرت بنفس الصيغ بعد الانقلاب المصري.. والنتيجة نعرفها.
الغرب أيضا ضد وجود منظمة نقابية تشوش على تنفيذ الاتفاقات مع البنك الدولي. اتحاد الشغل يعرف هذا. لذلك غلب على قيادته رعب حقيقي من الانقلاب خلال أشهر.. وما يزال مرعوبا. هو متأكد أن إزاحته مطروحة على جدول أعمال "المال الدولي" .. أي أمريكا وفرنسا.. إن لم يقبل بدور الشريك الصوري للانقلاب والمشرعن لاتفاقات بيع البلاد. لذلك آمنت دائما بأن كل من يستهدف الاتحاد، بكل أخطائه، هو حليف موضوعي لصندوق النقد.. والدليل أن هذا الموقف الشعبوي من الاتحاد يلتقي فيه كليا أنصار الانقلاب وخصومه.
أخيرا.. بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.. وانفجار ملف/حرب الغاز لتعويض الغاز الروسي في أوروبا.. تضاعف الحضور الأمريكي الأوروبي في تونس.
أمريكا وحلفاؤها ماضون في استعمال الانقلاب ليحقق كل شروط الاستعمار الجديد في سياق دولي تقترب فيه الصين وروسيا من المجال الغربي التقليدي. والمطلب الديمقراطي الذي ترفعه أمريكا في وجه الانقلاب هو قفا سلاح الضغط المالي. مؤسف طبعا أن يتم استعمال الديمقراطية، البوابة الحتمية للحداثة الإنسانية، سلاحا مخادعا مت قبل الاستعمار.
بمعنى ما.. نحن التونسيين، سكان هذه الأرض، أضعف حلقة في الحكاية. طبعا من غير المجدي أن نيأس. اليأس ليس موقفا. والفعل والمحاولة ليسا من قبيل التفاؤل بالمستقبل طبعا.. هما فقط من قبيل المراكمة التاريخية.. للعبث الضروري.