من الصعب جدا تمثّل حجم التحولات التاريخية التي تزلزل كل الجغرافيا العربية منذ قرابة العقدين. ما يحدث رهيب وكارثي ولا يترك للعرب فرصة فهمه فضلا عن مواجهته ومقاومته. ما يجري عندنا هو عملية تجريف ممنهج، وشامل لدولنا ،ومجتمعاتنا، وعقولنا.
هل يحدث هذا بتخطيط من جهة ما؟
ببساطة نعم.
ما حدث لكل دولة عربية منفردة زلازل تاريخية كبرى تحتاج طاقات فهم جماعية جبارة لتفكيكها. ما حدث في العراق وحده واليمن وحده وسوريا وحدها والسعودية وحدها والإمارات وحدها وقطر وحدها والبحرين وحدها ومصر وحدها وليبيا وحدها وتونس وحدها والجزائر وحدها والمغرب وحدها ولبنان وحده.. أما فلسطين فهي في قلب كل هذا.. ووحدها.
باختزال قد يكون مخلا :
هناك احتلال جديد للعالم العربي. انطلق بالسيطرة على دول الخليج العربي ذات القدرات الطاقية والمالية الاستراتيجية الضخمة.
من هو(م) المحتل الجديد؟
هو غرفة سياسية معولمة تمثل مصالح رأسماليةِ كارتيلات المال والقوة.. مصالح ما فوق/بين دولية، أي نوع من الأوليغارشية السياسية/المالية التي تدير العالم بنوع من الاستقلال الإجرائي عن تفاصيل سياسات الدول الكبرى الداخلية.
الفاعلون الأساسيون فيها، بحكم التاريخ والخبرة السياسية والعلمية والمصلحة، هم للتقريب دولة الكيان والانجليز والامريكان والفرنسيين أساسا.. وربما مراكز قوة صاعدة ومتغيرة.
مقرّها المركزي، للتقريب أيضا ، الإمارات العربية. دولة لم تعد عربية إلا اسما بعد أن تحولت إلى دولة=شركة=مركز مالي عالمي لتبييض أموال كل أنواع الجريمة. وقاعدة استعمارية مهمتها إعادة تشكيل جغرافيا المنطقة وثقافتها عبر توظيف ميليشيات عسكرية ومخابراتية خفيفة ومتحركة.
يحدث أن تتصادم مصالح مكونات هذه الغرفة تكتيكيا ليتم تعديل خططها الاستعمارية. خطط تراوح بين الانقلابات العسكرية والمخابراتية العارية والاختراقات السياسية الذكية.
مثال تطبيقي : الانقلاب المصري سنة 2013 كان بتمويل خيالي وتأطير سياسي علني من الغرفة الإماراتية.
الانقلاب داخل العائلة المالكة السعودية سنة 2017 والذي صعد بموجبه إلى الحكم محمد بن سلمان المراهق النزق المتهور والذي فتح باب تطبيع أكبر دولة عربية بكل زخمها التاريخي "الروحي" مع الكيان، انقلاب أدارته الإمارات بشكل شبه علني.
تبعه إعلان فعلي للحرب على قطر لضمها إلى الغرفة الإماراتية لولا التدخل التركي المباشر لمنع ذلك. لكن الرفض القطري للانضمام إلى الغرفة الإماراتية لم يكن من منطلق مضاددة وجودية، بل كان مدفوعا بتوازنات عائلية قبلية أساسا وبالطموح الدور السياسي الدولي التركي.
بل أنني بخصوص قطر أذهب إلى القول أنها هي التي مهدت لنموذج الغرفة الإماراتية منذ انقلاب حمد على أبيه سنة 1995 ومن ثم انطلاق قناة/مشروع الجزيرة وتحويل قطر إلى قاعدة/مختبر التوظيف الاستراتيجي للإسلاميين والتطبيع الفعلي مع الكيان.. وتخريب قضية فلسطين من الداخل.
لذلك يمكن القول بأن الغرفة الإماراتية ليست إلا تطويرا نوعيا وتنويعا لغرفة قطر. أما الانقلاب في تونس فليس إلا حلقة مطوّرة من حلقات عمل هذه الغرفة. حلقة أكثر ذكاء في توظيف الغباء...
كيف أمكن أن ينشأ هذا النوع من الاستعمار المعولم.. أو من الامبريالية المالية السياسية.. ؟ هل هو ظاهرة تخص الجغرافيا العربية ؟ هل نملك نحن العرب المقومات الدنيا لمواجهته؟
..... تبا.