لم نكن - نحن إِبْنَيْ فاطمة وإبراهيم - في أوساع "السّقي" بلد الأعاصير الرملية التي لا تكاد تنقطع نطمع بأكثر من "البقاء على قيد الحياة ".. ولمّا تفتّقت عبقرية الوالدة عن فكرة تعليمنا في مدارس الحكومة - وكان أمرا نادرًا في جيلي - بالمدينة والانتقال إليها، أصبحنا نفكّر جديًا في أنّه باستطاعتنا أن "نفكّ الخطّ" ونعرف الحساب.. كان ذاك أقصى طموح الوالد رحمه الله لنعود بعد ذلك لما نُذر له أمثالنا من البدو من تربية قطيع ماشية وكبش أقرن!
وتحمّل الوالد والوالدة سنين عددا هزء الهازئين وضحك البدو على" طموح "فاطمة التي كانت تردّد مرتبكة :" ندوّر ذرّي يقروا ويتوظّفوا خير من سرّاح في جرّة السعي ".. وخوّضنا في التعليم "نتكبّوا ونتقعّدوا " والوالد لا يتخلّي عن فكرة العودة إلى"السقي" فيصبر على شغل "المرمّة" والوالدة تخفي أشواقها وتقلع الزرابي لتقيم أودَ أسرة من أربع بنات وولدين أظهرا مبكّرًا " تمرّدًا على الحاكم "!
حين أُلقي القبض على صغيرها في سنة الباكالوريا كانت تقاوم بشراسة فكرة التخلّي عن كلّ شيء والإكتفاء بالحدّ الأدنى فقد فشل مشروعها وأُحبط عملها.. وزادها زواج بناتها وشيخوخة زوجها وانقطاع كبيرها لدراسته الجامعية وإصابتها بالسكريّ والضغط إحسَاسًا بأنّها ستموت قبل أن يزهر غصنها.. فكتمت!
النقطة الفارقة كانت لحظة إلهام عاشها "مختار" في سجنه : كان مستلقيًا على ظهره ويرفع رجليه عموديا مع الحائط لضيق المكان بالمساجين عندما قرّر أن يكون "محاميا" وهو الممنوع من اجتياز الباكالوريا ! .. فكرة مجنونة يضحك عليها العقل في لحظات اليأس.. ولكن صدّقها القلب.. فكان محاميا !
لم يكن "إبنا فاطمة وإبراهيم" يحلمان حتي بما أصبحا عليه، ولكن كانا علي يقين الواثق بالله أنّهما غرسٌ طيبٌ من بركات فاطمة وإبراهيم.. واليوم يزعمان أنهما يواصلان صوتًا لهما ولكلّ "أولاد الحفيانة"..
يتقدّم الأستاذ مختار الجماعي اليومَ مترشحًا لهيئة فرع المحامين بتونس بكلّ ثقة، فإن نجح فذاك مجرّد خطوة وإن لا قدّر الله لم يستطع فلن يغيّر من أمر فاطمة وإبراهيم - رحمهما الله - شيئا.. ألم يكن أقصى طموحهما أن "نفكّ الخطّ"؟!.. ها نحن اليوم نفكّه ونعيد تركيبه للدّفاع عن القضايا العادلة !
هذه القصّة من طقطق ل"سلام عليكم".