لم أتابع تفاصيل ما يجري من تظاهرة كأس العالم في قطر إلّا قليلا على اليوتيوب أو ممّا أقرأ من المناكفات التي صار إليها كثيرون في هذا الفضاء المثقل بالغثّ قبل الثمين. تفاصيلي اليوميّة تمنعني من الكتابة منذ أشهر، يضاف إليها شعور باللاجدوى يضيق ويتّسع تنشأ منه غيوم تحجب الرؤية، أحيانا، وتحول دون التعبير، كثيرا.
كون قطر دولة صغيرة في جغرافيتها وقليلة في عدد سكّانها لا يمنعها من أن تنجز عملا يَلفت أنظار العالم إليها ويجعلها قبلة لسكّان الكرة الأرضية في أكبر تظاهرة على وجهها. قطر دولة عضو في الأمم المتّحدة ولا تنتظر من أحد أن يرضى عنها فيضيف اعترافه بها إلى السجلّات الدوليّة.
كون قطر كانت صحراء وكون سكّانها كانوا من بدو الصحراء لا يمنعانها من أن تستفيد من ثرواتها الطبيعية وتصنع بها ما يرى فيه كثيرون عجبا عجابا وكون نظام قطر السياسيّ على صلة بالإخوان المسلمين لا يمنع قطر من أن تكون دولة من دول العالم اللافتة. دول غنية كثيرة لم تبلغ بثرواتها ما بلغته قطر على أكثر من صعيد. دول كبيرة في جغرافيتها لم تفعل ما فعلته قطر في التعليم والإعلام. دول كبرى بعدد سكانها لم تصل ما وصلت إليه قطر من سمعة جعلتها ملء السمع والبصر.
وكونك مهووسا بالتصنيف تملك مربعات ذهنيّة محدودة ضيّقة تصبّ خلق الله فيها لا يمنع أن تستعصيَ عليك دولة صغرى أنجزت من الأعمال ما لا تصنعه الدول العظمى فخرجت بما صنعت عن مربّعاتك التي وضعتها لنفسك فحشرتها بها ولم تحشر غيرك أحدا.
الحكم الموضوعيّ يقتضي معايير تدلّ عليها مؤشّرات وليس خطابات أهواء أشبه بالخواء، فهل يملك مهاجمو قطر مؤشّرا واحدا يدعم حججهم في هجوماتهم عليها؟
العرب قد ينشأ منهم في هذا الزمان ما يفيد والشاهد على ذلك قطر.. تلك فرضيّة لها مدعّمات كثيرة. العرب قد يحتلّون مركز المتن وليس محكوما عليهم بأنّ يظلّوا رقما متروكا على الهامش وتلك فرضيّة تجد حجّتها المدعّمة في قطر. وأن تكون قطر محجَّ العالم في هذه التظاهرة حريّ بأن يحرّر العقول فترى ما تصرّ الأهواء على حجبه ثمّ تعالوا نتحاسب بالمسطرة والقلم حتّى نرى حجم قطر الحقيقيّ ونهتديَ إلى حمد الضوء بدل إغماض العين لِلَعن الظلام.
قطر بدأت تنتشر على قناة الجزيرة.. ظهرت على شاشتها لتتكلّم بمختلِف اللغات ويراها العالَم ويقصدها القاصدون. وبالجزيرة أبصرنا، نحن العربَ، من عمًى.. حتّى جاءتنا بيّنة الثورات فعصفت بنا وذهبت بأبصار بعضنا وبصائرهم فأعلنوا عدوانهم على قطر والجزيرة التي رقصوا في البدء على أهازيج الشعوب على شاشتها المقاومة.
الذين يلعنون الجزيرة، الآن، كانوا بالأمس يجعلون منها نافذتهم الأولى على الأخبار ويطلّون منها على الأفكار. مَن مِن هؤلاء الذين يدعمون النظام السوري، مثلا، كانوا يشاهدون القناة السوريّة الرسميّة ؟ ألم يتخذوا من الجزيرة قناة لهم قبل أن تثور الشعوب على حكّام متسلّطين اختاروا هم الانحياز إليهم دونها بعد أن تبيّن لهم خفّة موازينهم بين شعوبهم وخذلتهم ديمقراطية طالما ادّعوا وصلًا بها؟
دعك من الإسلاميين الذين تُعادى قطر والجزيرة بسببهم، ألم يلتق الناس على قناة الجزيرة بهشام جعيّط وأبي يعرب المرزوقي ومحمد عابد الجابري ومحمّد أركون وخير الدين حسيب وبرهان غليون وصادق جلال العظم وغيرهم من الباحثين والكتّاب والمفكّرين التنويريين؟
ألم يلتقوا على شاشتها الزعيم الكوبي فيدال كاسترو وغيره من الزعماء المعارضين للامبريالية الأمريكيّة؟ ألم تحملهم على أجنحتها إلى انتصارات المقاومة على العدوّ المحتل في أكثر من مناسبة؟
في رأيي، قطر بها نظام سياسيّ ذكيّ، نعم ذكيّ جدّا، يعلم جيدا طبيعة العلاقات الإقليمية وحقيقة التوازنات الدولية.. نظام ليس متهوّرا، ولكنه ليس عميلا.. يتحرّك في مساحة ضيّقة ليحقّق، رغم الضيق، منجزات كبيرة.. المساحة الضيقة ليست مساحة قطر الجغرافية فقط، بل مساحة الممكن التي تحاصرها غيلان عالمية تلتهم من يقف في وجهها ولو بكلمة.
قل في قطر ما شئت من صفات الاستهجان، ولكن لا تنس أنّ قطر تتحرك في سياق إكراهات متراكبة وإلى وقت قريب كانت مهدّدة بأن تُغرَق في البحر من قبل أنظمة الجوار التي تستأسد عليها بسعتها الجغرافية وبكثافتها الديمغرافيّة.
رغم كل ما تجده قطر من قسوة القريب قبل البعيد فإنّها قد نجحت في أن تكون رمّانة الميزان.. تقدّم للأمّة الكثير بعيدا عن تلك المسلمات الكسولة الجاهزة التي تستسهل حشر قطر ضمن مربّع دول الخليج التي تحتكر أنظمتها ثرواتها الطائلة دون أن تنفع الأمّة بشيء.
البترول ليس شرّا والثراء ليس عيبا. وقد بيّن النظام القطري كيف تسخَّر الثروات في ما ينفع الناس بعيدا عن الدعاية المضلّلة والتهريج السمج. لكلّ هؤلاء الأدعياء الجالسين فوق الربى... خذوا ورقة وقلما واكتبوا لنا في الموضوع التالي:
تخيّل نفسك أميرا على قطر وبين يديك كلّ تلك الثروات وأمامك كلّ تلك الصعوبات واشرح لنا كيف ستخرج من المربّع الذي ترفضه لقطر. وضع لنا من أفكارك الاستثنائية ما تفيض به على الكرة الأرضية بخلاص يغنيها من قيامة تُرَدّ فيها المظالم إلى أهلها.