«عليه العوض ومنه العوض»!!..من أبلغ ما يقوله المصريون عندما يصطدمون بأمر محيّر وقاهر، لا تعليق لهم عليه و لا حول لهم أمامه ولا قوة، فلا يبقى لهم بعد ضرب كف بكف، سوى الله سبحانه فهو ملجأهم الأول والأخير.
لا شيء يمكن قوله الآن في تونس سوى هذا التعبير البليغ بعد أن خرج الرئيس قيس سعيّد ليقول إن مقاطعة زهاء 90 في المئة من الشعب للدور الثاني من الانتخابات البرلمانية الأحد الماضي، تماما كما حدث في الدور الأول، لا تفسير له بالنسبة إليه سوى أن «البرلمان لم يعد يعني لهم شيئا» ماضيا بذلك في حالة إنكار متصاعدة ولا حدود لها.
لم يفكّر الرجل، ولو للحظة واحدة، أنه قد يكون على خطأ أو أن نهجه قد يحتاج إلى بعض المراجعة، أبدا!! هو يعتقد تماما أنه على حق مطلق يستحيل أن يشوبه ولو بعض الباطل. فعل ذلك بعناد عجيب في الأربع محطات لخريطة طريقه التي أعلنها للناس بعد انقلابه على الدستور في الخامس والعشرين من يوليو/ تموز 2022.
حين لم يشارك سوى 500 ألف تونسي فقط في الاستشارة الإلكترونية التي دعا إليها اعتبر هذه المشاركة كبيرة، وحين لم يبلغ عدد المصوتين على الدستور الذي صاغه بنفسه أقل من ثلث من يحق لهم التصويت المقدر عددهم بأكثر من 9 ملايين تحدث الرئيس عن «مرحلة جديدة» وحين قاطع أو عزف زهاء 90 في المئة من الناخبين عن الذهاب للإدلاء بأصواتهم في الدور الأول من الانتخابات البرلمانية قال: هذا عبارة عن «الشوط الأول» من مباراة ولا بد من انتظار نهايتها، فلما انتهت بنهاية «شوطها الثاني» قال إن الناس لم يكونوا معنيين بالمباراة أصلا!!.
لا يكتفي سعيّد بكل ذلك، بل إنه اعتبر أن رأيَ من قدّر ما جرى بأنه نزع لشرعيته مطالبين إياه بالرحيل، أو على الأقل بالدعوة إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، أو على أقل الأقل تعديل نهجه الأحادي العنيد، إنما هو رأي «لا يعنينا في شيء ولا يثير إلا الازدراء والاحتقار» مؤكدا مرة أخرى بأن «عمقنا الشعبي أكبر من عمقهم» (على أي أساس؟ لا أحد يدري!) دون أن ينسى كالعادة رمي هؤلاء وكل معارضيه بالعمالة و«الارتماء في أحضان الأجانب».
سعيّد بهذا الكلام أغلق الباب تماما، وبالشمع الأحمر، أمام أية مبادرة لإنقاذ البلاد من كربها العظيم لأن الرجل، بكل بساطة، لا يرى في ما يسير عليه أي اعوجاج مهما كان، ومن هنا لا ندري إن كان «الاتحاد العام التونسي للشغل» مثلا سيمضي قدما أم لا في مبادرته التي يعتزم تقديمها إليه شخصيا حفاظا على حد أدنى من المعقولية، حتى قبل النجاعة.
ما ميّز الجولة الأخيرة من الانتخابات البرلمانية، ربما أكثر من غيرها، هو موجة التهكّم التي أثارتها بخصوص بقاء مكاتب الاقتراع خالية طوال اليوم تقريبا إلا من أنفار محدودين بين ساعة وأخرى فقد نشر مثلا الصحافي بسام بونني مراسل «بي بي سي» في شمال إفريقيا صورة لزهاء العشرين صحافيا ومصورا في مكتب اقتراع يتابعون تصويت مواطن وحيد لا يوجد أحد غيره من الناخبين، فيما تندر آخرون بصورة قطة تجول في مكتب اقتراع مهجور، أما أحدهم فقد ركّب صورة لحبيب اختار أن يجلس مع حبيبته في مكتب اقتراع بعد أن طالبته بالذهاب إلى مكان هادئ!!
ومع ذلك، فهناك من الناس من طرحوا أسئلة وملاحظات وجيهة في مواقع التواصل كالذي تساءل بين الحيرة والاستنكار عن «أغرب مجلس نيابي» قائلا: مقعد أو أكثر لم يترشّح له أحد، أي لم يرغب فيه أحد! فمن سيمثّل هؤلاء الناس؟ أكثر من مقعد يترشّح له واحد فقط فيحصل عليه بدون أي صوت من أي أحد! فمن يمثّل هذا النائب؟ في دائرة انتخابية يمرّ مترشحان إلى الدور الثاني فلا ينتخبهما أحد لأنه لم يأت أحد يوم الاقتراع! أين ذهب هؤلاء الذين انتخبوهم في الدور الأول؟ ومن الطرائف التي أشار إليها آخر أن مترشحا خاض جولة الإعادة الثانية ولم يحصل حتى على صوته وجرى إعلان نتيجته (صفر)!! وأن أحد أبرز مؤيدي الرئيس و«مفسريه» كما يسمون أنفسهم، لم يفز بدائرته في جرجيس بولاية مدنين جنوب البلاد.
الجمع بين الاستهزاء والغرابة لم يقف عند حد التونسيين فها هو صديق سوداني يعلّق بالقول إن ما رآه سعيّد من أن العزوف عن التصويت يعني أن البرلمان لا يعني لهم شيئا إنما هو «أحدث نظرية في الحكم» فيما يقول صديق آخر مصري يقول إن كلامه «تفسير تاريخي، وما أحوجنا إلى هذه العقول ذات التفسيرات المدهشة! ».
لا أحد يدري كيف يمكن لتونس الخروج من دائرة العبث المستعصية هذه بعد أن وصلت إلى هذه الأبعاد السريالية الحزينة التي لم يعد ينفع معها التحليل السياسي، مهما كان متحذلقا، إذ من الأفضل ترك مكانه للتحليل النفسي.