نهاية أسبوع نشطة أمنيا في تونس ويعقبها أسبوع غامض، فالأخبار ضنينة والإشاعات أكثر من الأمطار والناس يموجون في بعض ولا أحد يتبين الطريق. خلال نهاية الأسبوع قام كل تونسي عنده حساب على الفيسبوك باعتقال كل أعدائه وخصومه، وأقام البعض محاكمه وأصدر الأحكام وبات مطمئنا إلى سلامة موقفه.
حتى شبكة المحامين النشطة في مجال الدفاع عن الحريات الأساسية والتي تقف بالمرصاد لكل الانتهاكات عجزت عن مدنا بخبر يقين، إلا أن الإحالات تمت أمام فرقة مقاومة الإرهاب وأن التهم خطيرة.
لكن ماذا جرى بالضبط في الأسبوع الثاني من شهر شباط/ فبراير؟ لن يجد القارئ إجابة شافية ولو وجدتها لكتبت بأفعال اليقين.
اعتقالات تبدو عشوائية؟
قامت السلطات الأمنية بحملة اعتقالات نهاية الأسبوع شملت شخصيات عامة من مشارب مختلفة، وهو الأمر الذي عسّر فهم الحملة ومراميها، فالأشخاص في الظاهر لا جامع بينهم سياسيا ولا ثقافيا ويمكن لو عدنا إلى الوراء لوجدناهم مختلفين جدا حتى في موقفهم من الانقلاب ومن السياسة عامة.
الاختلاف بين الشخصيات سهّل قبول الإيحاءات المسربة في الإعلام وفي السوشيال ميديا بوجود مؤامرة لتقويض النظام، وهي تهمة سمعت مباشرة بعد الإيقاف، وضاعف اليقين المزيف حملة التشويه الممنهجة التي أطلقها أنصار الانقلاب وقد قضى كثيرون وقتا لتمييز الخبر من الإشاعات. لقد تم الاتفاق لاحقا على أن المعلومات قليلة وهذا نصف الصورة، أما نصف الصورة الآخر فلا يزال بلا إجابة شافية (بعد أكثر من مائة ساعة) وهو ما فتح الباب لتخرصات وأقاويل متعالمة.
لا شيء يربط السيد كمال لطيف (رجل الأعمال النافذ من الساحل)، مع السيد خيام التركي، (رجل الأعمال من العاصمة)، ولا شيء يجمعهما مع السيد عبد الحميد الجلاصي المهندس (القيادي المستقيل من حزب النهضة).، لكن ثلاثتهم باتوا في محلات مقاومة الإرهاب بعد اقتحام مساكنهم واقتيادهم في غياب المحاماة.
هل التهمة واحدة أم هل توجد تهم مختلفة؟ ولماذا تزامنت الاعتقالات وأوحت بوجود رابط بينها؟ هل ذاب الجليد بين هذه الرؤوس/ التوجهات المتناقضة إلى حد الاتفاق على الإطاحة بالانقلاب؟ سيحتاج الانقلاب إلى أدلة قوية جدا وحاسمة لإقناع الجمهور المتربص بالخبر (وفيه كثير عاقل يمحص) وإقناعه بوجود هذه المؤامرة. هل علينا أن ننتظر انقلاب التهم على من وجهها وخروج الموقوفين أبرياء؟ نحن في وضع المتابعة بلا مصدر للمعلومات، ولذلك لن نوحي للقارئ بأي شيء.
هناك حركة جماعية ضد الانقلاب
اليقين الوحيد الذي تتركه الأخبار المتضاربة وغير اليقينية أن هناك أركسترا تشتغل ضد الانقلاب. ما رشح من مصادر متقابلة أن السيد خيام التركي، رجل الأعمال الفاقد لكل سيرة نضالية (مثل قيس سعيد).، قد رتب عشاء سياسيا لمجموعة من الشخصيات (قد لا يكون الوحيد، ولكنه الأكثر لفتا لانتباه الأجهزة) ونتوقع (التوقع لا اليقين) أن الحديث كان سياسيا ولغاية إنهاء الانقلاب، وهذا سبب انزعاج الانقلاب وأجهزته الصلبة.
حضر الاجتماع فيما يبدو رباعي الأحزاب الاستئصالية القريبة من السفارة الفرنسية والتي ترفض كل تقارب مع حزب النهضة، وترتب لما بعد الانقلاب دون النهضة ولو بقي الانقلاب أبدا.
هل حضر السيد الجلاصي بشخصه كإسلامي مستقل (لم يغب عن شارع المعارضة منذ أول مظاهرة) أم كسفير استطلاع للنهضة ونحن نعرف عمق اختلافه مع الغنوشي؟
هل كان السيد كمال لطيف (وهو جهة سياسية وجغرافية واقتصادية توشك أن تكون دولة داخل الدولة) على علم بالاجتماع وله عين داخله، أم أنه جزء منه وتم بتنسيق معه؟
لقد حضر العشاء السياسي عند السيد خيام ممثلون عن جبهة الخلاص لكن الاعتقالات لم تشمل ممثلي الجبهة بعد، فهل هم على الطريق أم أن الفرز يجري على قاعدة تخويف المعارضين الجدد وتفريقهم عن المعارضين الأوائل؟
نستنتج ولا يقين ونعتذر للقراء
نرى أن كل عمل يشارك فيه رباعي الاستئصال يكشف يدا فرنسية وراء الاجتماع/ العشاء السياسي، تعمل على استباق شارع سياسي مبدئي بعمق نهضوي وافتكاك زمام المبادرة منه، وبشكل سري يشتغل خلف الأضواء (وهو تقليد فرنسي جُرّب فصحّ). لكن يظل هناك سؤال مفتوح برسم المستقبل: هل تخلت فرنسا عن المنقلب وبدأت التحضير لما بعده بخلق واقع جديد على الأرض يقوده خيام التركي الذي يظهر كأنه معتدل وغير استئصالي، ويقدم كشخصية محافظة لم تشارك في أي عمل استئصالي؟ (أول البعض تهريب تونس للصحفية الجزائرية المطلوبة للأمن الجزائري كهدية أخيرة لفرنسا عساها تواصل إسناد الانقلاب، رغم غضب الجزائر التي تدفع رواتب التونسيين منذ سنة على الأقل)…
نستنتج أن هناك لهفة ومسارعة لتوليف حل على قاعدة إقصاء النهضة ومن لا يعمل على إقصائها (خاصة مواطنون ضد الانقلاب وائتلاف الكرامة وشخصيات أخرى مستقلة تعمل على قاعدة دستور 2014 ولا تقبل التأسيس على غيره)، وهو ما يسمح باستنتاج مهم:
الانقلاب انتهى والجميع يشتغل على ما بعده، لكن هناك جهة تصر على قواعد الفرز السياسي أي الانطلاق من الموقع الاستئصالي ومواصلة تحميل النهضة كل مصائب ما قبل 25 تموز/ يوليو (ونشير بلا مواربة إلى السفارة الفرنسية).
نستنتج أن الانقلاب وأجهزته استبقت بدورها ولا نظن أن عشاء سياسيا مهما تخفّى سيغيب عن الأجهزة الاستخبارتية مهما قلت كفاءتها. هل هو الجيش واستخباراته العسكرية؟ هل هي الداخلية وأجهزتها؟ هل هي أجهزة استخبارات صديقة تساند الانقلاب؟ كل من له مصلحة في بقاء الانقلاب تحرك وأنقذ الانقلاب لكنه أنقذ المعارضة المبدئية أولا. وهنا الخلاصة التي نود إبرازها رغم ضعف المعلومات:
المعارضة الشرعية التي خرجت ضد الانقلاب منذ الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر 2021 اكتسبت شرعيتها في الشارع عمليا ولها شرعية دستور 2014 كاملة، وهي تتحرك في العلن لا في الصالونات، وبأسمائها ووجوهها المكشوفة وبجملها السياسية الصريحة، وهي رغم تقطع تحركاتها ملكت شرعية الشارع المعارض. وما تبين من العشاء السياسي أنه لا يعارض الانقلاب فقط بل يعارض معارضيه الشرعيين، ويشتغل من ورائهم لاستباقهم ويحاول كسب الميدان بعمل من وراء الكواليس، إنه معارض للمعارضة ويزعم معارضة للانقلاب.
لقد قدم الانقلاب رغما عنه خدمة لمعارضيه الحقيقيين لا الراغبين في إرثه دون جهد ودون ماض نضالي وسياسي، سوى إرث حضري يظن نفسه مرسلا من العناية الإلهية لحكم شعب جاهل (لأنهم كضباع جائعة استشعروا سلطة مرمية على قارعة الطريق أو خبزة باردة). لقد نظف الانقلاب الطريق من معارضي الصالونات الذين يشربون نبيذ بوردو مع السفير الفرنسي. لن نشكر الانقلاب، ننتظر القدر يغلي ولن تكون طبخة حصى.