هذا البلد بخير، نعم تونس بخير. ولكنّ لكلّ خيرا ثمنًا ولكلّ عروس مهرًا.. وكلّما علا الأمر غلا ثمنه.. وليس من السهل على شعب لم يعرف تاريخُه غيرَ الاستبداد أن يعبر إلى ديمقراطيته بمثل ما شهد الشعب التونسيّ من سهولة مريبة.. الديمقراطية بضاعة غالية لم يدفع الشعب ثمنا لها يليق بها.. وهذا الانقلاب بعض ثمنِها.. ويبقى ثمنا بخسًا في جميع الأحوال.
منذ قامت بتونس ثورة ضجّت بها الحياة بعد موات ثقيل طويل.. نبتت شجرة الحرية بها وأينعت، ونَعِمَ الناس بها كما لم يعرفوا من قبلُ، وسارت الديمقراطية في طريقها خطوات، غير أنّ الأرض إذا ربت وأنبتت جاءت الطفيليات مع نبات الأرض الأصيل. وليس للأرض أن تنفيَ عنها طفيليَّ النبات إلّا بفلّاح أصيل يتدخّل ليحميَ طيّبَ النبت من خبيثه.
الطفيليات قد يعلو شأنُها إذ أهمل النباتَ أهلُه، ولمّا أهمل التونسيّون نبتَهم ولم يرعوه حقّ رعايته ولم يحسنوا العناية به نبتت معه طفيليات الشعبوية والفاشية والوظيفيّة وتطاولت على نبات الديمقراطيّة الأصيل.. قد يصل الطغيان بالطفيايات المهمَلة مدى بعيدا يهدّد النبات الأصيل.. لذلك فإنّ ما نقاسيه اليوم من انقلاب رثّ إنّما هو من ثمار ذاك النبات الذي خبث.
قد تتعب الطفيليّات الزرع، ولكنّها لا تقتله.. لأنّ الزرع أصيل. نصف الكأس، أيّها السادة، به انقلاب يشطح في الميدان وحده على غير إيقاع مفهوم، مثل مجنون لا يحكم سلوكَه منطق ولا يستدلّ الناس عليه بخطاب عاقل.
يعجز عن شؤون الناس، فيصرخ في وجوههم في الليل إذا ناموا ويحتجب عنهم في النهار إذا "عاشوا". لا يفهمون منه خطابا ولا يعرفون له منطقا. ولا يحصون له إنجازا..
ولأنّ عجزَه يخنقه فهو يتخبّط.. يزعم له أعداء يقيّدون حركته يلقي باللائمة عليهم في إنكار عارٍ لعجز مشتمِلٍ عليه.
وبدل أن يوفّر للناس معاشهم، كما يفعل كلّ مسؤول عاقل، يمدّ يده ليبطش بهم ويسلبهم حرية سالت فيها دماء وتراكمت دونها عذابات في زمان كان هو تحت التراب يعيش ويكتفي بالأكل والنوم والصمت.. والتنفّس الرتيب.
حين يحكم العاجز ويواجهه عجزُه يكون معارضوه خونة متآمرين.. ذاك قانون لا يخرج عنه ظالم مستبدّ.. وبدل أن يسعى الفاشيُّ في ما ينفع الناس ينشغل بتشويههم ويستعمل الدولة آلة لتحقيق غايته كأنّه بتشويه خصومه يزيّن صورته إذ لا شيء من منجَزه يزيّنه.
نعلم أنّ الحاكم يخرج، عادة، على شعبه في زينة له يدّعيها ولكنّ هذا المنقلب بلا زينة، لذلك لم نره خرج إلّا لتقبيح خصومه وتشويه معارضيه والتنكيل بمقاومي عسفه.
وحتى يستقرّ حكم مَن لا علاقة له بالوطن غير ميلاده فيه لا بدّ أن يُخفيَ الذين ناضلوا في الحرية التي كان له بفضلها صوت وينكّل بالذين اجتهدوا في الديمقراطية التي اكسبته جرأة خرج بها من تحت التراب.. يخفيهم ليستقر به المقام.. لأنّه لا يستطيع منازلتهم في سوح الشرف.
فهل استقرّ به أمره بكلّ هذا التنكيل؟
لم يستقرّ ولن يستقرّ، لأنّ آلة حكمه حدباء لا يستقيم بها ميزان ولا يعتدل بها قوام.
اليوم تحتدّ المعركة وتشتدّ بين طاغية صغير لا يمكن أن يكبر وبين أحرار كبار وديمقراطيين عمالقة.. بين أنصار الدولة الديمقراطية المتنوّعين وبين منقلب فرد ليس سوى نبات طفيلي نبت على حافة ديمقراطية نسيت أن تجعل لها مخالب تحميها الغوائل. فلمّا غفل أهلها وانشغلوا بمناكفات بينهم تسلل منها هذا الفراغ الرهيب ليحدث كلّ هذا الضجيج.. هذا الانقلاب ليس سوى ضريبة على نسيان الديمقراطية لمخالبها.. وليس له من أعمال تشهد عليه سوى:
سجن
واعتقل
وقبض
وأودع
وجميع المشتقات المهدّدة للحقوق والحريات.. وللإنسان.
ولكنّ الفراغ يظلّ فراغا.. لا طعام منه ولا أمن يأتي معه.. وأمام هذا الفراغ كان لا بدّ أن يقف أهل الامتلاء للذود عن ديمقراطيتهم ولحماية دولتهم من مدّعي نسبٍ إليها.
ولقد بدأ الوعي يعود والعقل يعمل وتقارب المتباعدون ودنا الفرقاء بعضُهم من بعض بعد أن أدركوا خطورة المنقلب على الوطن وعلى سلامة أهله.
حين ترى :
نجيب الشابي
وحمة الهمامي
وعز الدين الحزقي
وراشد الغنوشي
ولزهر العكرمي
والصافي سعيد
وعبد الحميد الجلاصي
وخيّام التركي
ونور الدين البحيري
حين ترى هؤلاء يدافعون عن الحرية الجامعة بأجسادهم وبسلام عائلاتهم وحين ترى الأحزاب تقاوم لاسترداد الديمقراطية. وحين ترى الاتحاد العام التونسي للشغل يعود إلى الصفّ الوطني رغم أنف قيادته المرتبكة الخائفة الملحَقة بالمنقلب.. وحين ترى القضاة والمحامين ورجال الأعمال والفنانين والمثقّفين يدفعون صخرة الانقلاب عن صدر الوطن الواحد.. تدرك أنّ هذه البلاد مدرسة.. مدرسة في تعليم المقاومة والصبر عليها رغم أويقات الغفلات.. ذلك نصف الكأس الملآن بالحرية والديمقراطية والمقاومة، أيّها السادة.
تونس، بحقّ، ليست مثل غيرها وهذه النخبة رغم سوءاتها تظلّ نخبة عاقلة قد يعارك منها الأخ أخاه ولكنّه لا يسلمه لمنقلب لا يحسن قيادة سيّارة في طريق سيّارة. تربة هذا الوطن ثريّة حيّة.. وليس نبات الانقلاب الغريب سوى دليل من أدلّة ثرائها. ولكن النبات الطيب غلّاب للذي خبث. وإنّ غدا لناظره قريب.