رجل السياسة لا يعلق على الإشاعات مهما كان نوعها. هذه قاعدة وجب التذكير بها. و في نفس الوقت، من حق التونسيين معرفة أسباب غياب رئيس الدولة منذ آخر ظهور له علني في 22 مارس و هو الذي عود الشعب على ظهور يومي و لقاءات متكررة مع المنسقة العامة للعمل الحكومي ووزراء العدل و الداخلية خاصة.
الغياب لرئيس دولة مهما كان السبب هي مسألة أمن قومي و تصبح مسألة في غاية من الخطورة إذا تعلق الأمر بشغور وقتي أو مستديم. الملف الصحي لأي رئيس دولة ليس بالمسألة الهينة. إنّها مسألة في صلب الأمن القومي و خاصة عندما يتعلق برئيس إمتلك كل صلاحيات الدولة و سلطها و قراراتها كما هو الحال عندنا.
ما نعيشه اليوم من ضبابية و من إشاعات لا نعرف مدى صحتها هو نتيجة لهشاشة مؤسسات الدولة و غيابها و فقدان روح المسؤولية و عدم إحترام للشعب مع واجب التنبيه أن المسألة تتعدى الصراع بين أنصار و معارضة في هذا الوضع.
إنها الدولة و نواميسها بكل بساطة.
البحث عن الخلاص الجماعي
البحث عن الخلاص الجماعي يستوقفنا للحديث عن طبيعة الازمة التي نعيشها و لطرح اسئلة هامة متعلقة بها قبل التعرض للوسائل و الطرق للخروج منها.
في تقديري، هي ازمة متعددة الجوانب فهي سياسية و إجتماعية و إقتصادية و هي قيمية كذلك، و هي ازمة دولة و ازمة مؤسساتية و هي ازمة معرفية و أزمة طموح و تموقع في عالم متغير و متسارع التغيير و لذلك فإني أعتبر أننا نمر بأزمة حضارية خانقة و هو ما يمثل مفترق طرق في هذا الظرف بالذات نتيجته إما الخروج نهائيا من حالة الهوان أو الإضمحلال الحضاري النهائي.
بعض الأسئلة التي يجب علينا طرحها : هل نحن داخل الدورة الحضارية الإنسانية أو خارجها؟ هل أن قيم الأنسنة في تقدم أو تقهقر عندنا؟ هل أن لدينا مقومات الأمة أم نحن شتات أفراد و قبائل (بالمعنيين التقليدي و المعاصر)؟ هل أن قيم الحداثة (أو قيم الأنوار إن أردتم) في تقدم أو تقهقر لدينا ؟ هل أن مستقبلنا خير من حاضرنا أم العكس؟ هل لدينا وجود حضاري يميزنا عن بقية الحضارات أم نحن في طريق الإضمحلال الحضاري؟ هل نحن نعيش في الماضي أو في المستقبل و هل لدينا الوعي الكافي بهذا المستقبل؟ هل لدينا مقومات السيادة و ما معنى ذلك عمليا في واقع اليوم ؟ هل لدينا مقومات الإستدامة لأجيالنا القادمة ؟
هي أسئلة وجب طرحها و وجبت الإجابة عليها بكل تجرد و واقعية. أجوبة صريحة ترجع لنا صورتنا كما هي و لا كما نشتهي أن تكون. الإجابة ينبغي أن تكون جماعية. البعض من أصدقائي يعتقد أننا لا نملك حتى النخب الكافية عدديا و معرفيا للإجابة و لذلك يتحدثون كذلك عن أزمة نخب. لا أظن ذلك شخصيا مع إعترافي أن التخصص المعرفي المبالغ فيه مع الإستقالة الطوعية لهذه النخب هي عوامل تذهب في إتجاه رأيهم.
الازمة مركبة و معقدة و الخروج منها هو قطع مع عقل سياسي عقيم و هو لا يخص عشيرة بعينها او عشرية بعينها فهو عابر للأجيال و لذلك لن يكون ذلك ممكنا الا اذا عقدنا العزم أن نتغير داخليا و ان نغير طريقة تفكيرنا العقيم و المتكلس.
الخروج من الأزمة المركبة الحضارية لن يكون الا بوضع اسس ميثاق جمهوري جديد يضع أسس تعاقد إجتماعي متجدد نحدد فيه طموحا جماعيا مشتركا و هو بالضرورة طموح حضاري قبل كل شيء.
هو طموح يحمل على الأقل بعضا من العناوين التالية : المرور إلى مجتمع معرفة، الوعي بالعالم و متغيراته، تركيز بناء مؤسسات جمهورية تكتسب مناعة ذاتية ضد الإستباحة و الإختراق و التوظيف، تغيير عقيدة الدولة و تنظيمها في سبيل خدمة الشأن العام، النهوض بعوامل التحضر و الحضارة، القضاء الدائم على عراقيل خلق ثروة كافية و إدماجية و مستدامة و هي عديدة، بناء أسس تعاقد إجتماعي جديد يشمل كل الأنظمة.
أعتقد أننا غير جاهزون اليوم لذلك لأسباب عديدة أولها الطبيعة الشمولية و الإستبدادية لمنظومة الحكم الحالية و ثانيهما عدم وجود مشترك أدنى لدى القوى المعارضة، بل وعدم الرغبة في إيجادها و ثالثها إستقالة جماعية للنخب الفكرية و رابعها هشاشة الوساطات المؤسساتية و خامسها القصور المعرفي و الحضاري الآني و سادسها التكلس الايديولوجي القاتل.
و مع ذلك لا بد لنا و لا مناص لنا من الشروع في ذلك مع ما و من يتوفر لنا من إمكانيات.
سأرحب بكل تفاعلاتكم في هذا الموضوع مقرا أني لا أمتلك أي حقيقة فيه و أن شكي لم يستطع دحضه الا الإطلاع على بعض التجارب المقارنة الناجحة في مجتمعات و أزمان أخرى لست متيقنا البتة في صلاحيتها لنا. الشكوك أكبر من اليقين في هذا الموضوع، و مع ذلك لا ارى شخصيا طريقا آخر للخروج من هذه الازمة المركبة و هذا لا يعني البتة التوقف عن مقاومة منظومة الخطر الجاثم، منظومة الرداءة و التفاهة القائمة و التصدي لها بكل الوسائل السلمية المتاحة في نفس الوقت.