* ترجم المقال من اللغة الفرنسية : الاستاذ نورالدين العلوي
النذر السيئة تنهال في سماء تونس فقائمة الإيقافات طالت في ساعات قليلة خلال نهاية الأسبوع الأخير ولم تنقطع وفي نفس الهوجة انفجرت موجة عنصرية متوحشة ضد المهاجرين الأفارقة نتيجة حماقة رسمية. الهجمة على موجات الهجرة القادمة من إفريقيا جنوب الصحراء بنيت بحسب تلك الحماقة القائلة على أن الموجات قادمة لتغيير وجه البلد لاستبدال السكان الأنقياء (المنحدرين من عرق آري ) بإحلال السود محلهم ومن غريب القول أن اسم برنارد هنري ليفي ورد ضمن قائمة المورطين في جريمة التآمر على أمن الدولة أية سفاهة هذه؟ حتى بلغ القول مبلغ المؤامرة المرتبة ضد الدولة؟
إن الحرية شوق مقدس وهي من شروط الوجود الإنساني حتى لنظن أنها جزء من الدين. وقد اعتقدنا ذات يوم أنها غريبة عن هويتنا تحت تأثير القائلين أن الحرية ليست للتونسيين أو ليست للمسلمين بما يعني ضمنيا أن هؤلاء لا ينتمون للجنس البشري لأنهم جهلة وضعفاء ليقودوا أنفسهم بأنفسهم وأنهم يحتاجون إلى إنسان أرقي منهم ليرفعهم إلى درجة من درجات الإنسانية فهم غير قادرين على التكفل بأنفسهم وقيادها، فالحرية تحتاج قاعدة صلبة أي دولة (جلالة الدولة ) أو سمو الأمير الذي يعبر عنها قبل أن يمكن منحها لغير مستحقيها لأن سوء استعمال الحرية (من قبل هؤلاء) يقود إلى الخراب.
إن تأويل حادث 25 جويلية يأتي في هذا السياق. في حين أن الخراب هو من فعل جلالة الدولة والتي تلقي في روعنا ومنذ الاستقلال أنها نصف إله يملك مسبقا بذرة التقدم وأن نظرتها تخترق حجب المستقبل وفي انتظار مكارمها المنجزة قمنا بمسح طاولة حريتنا بقلب الحكم الاستعماري المسبق على أنفسنا وعندها تفطنا أن الدولة قد صارت هي ضميرنا الوحيد إذ لم يعد لدينا شيء من ضمير.
إن تملك الدولة لحريتنا يترجم فشل عملية التحرر من الاستعمار. إن الخوف من الحرية الذي كسرته الثورة منذ عشر سنوات أعطاه 25 جويلية رعدة الكوابيس في أجسادنا. إن الدولة الوطنية بنيت منذ البداية على هذا الإيهام (الدوغم) أي عاهتنا التاريخية لتحكمنا من خلالها. وأسلوبها المنحط في إدارة منظوريها لا يختلف في شيء عن أسلوب الاستعمار في معاملة المحليين (الانديجان) مع فارق مهم هو أن الدولة الوطنية تبرر لنفسها بهذه الفضيلة الوطنية ضد الاستعمار وأية خديعة أكبر من أن تمارس الدولة ذلك باسم إدخالنا في نادي التقدم. لتكسب الدولة نفسها وجها فإنها قامت بإعادة إنتاج الماكينة الاستعمارية لتحررنا من آثار الاستعمار أي منطق هذا؟
هل يمكن رفض أساليب الاستعمار ثم تمجيد نفس الأساليب إذا مارسها الوطنيون ليحكموا شعوبهم بسجن أولئك الذين يفكرون في سبب آخر لوجود مختلف للدولة وتعذيبهم وخنقهم. إن الاتهام بالخيانة والاتهام بالاعتداء على هيئة الدولة يجعل المدافعين عن الحرية هم أعداء التقدم. رغم ذلك نقول أنه خلال ستين عاما لم تنتصر وسائل العنف التقدمي على الفقر والبؤس إن الإدارة هي التي انتصرت وكشفت أنها عدو التقدم لماذا؟ لأنه لا علاج للفقر إلا بالحرية وحدها الحرية الكاملة هي التي تغدي قوى التطور والازدهار الحرية ليست من إنتاج الدولة بل بالعكس هي مبدؤها المؤسس.
إن الوطنية الشمولية هي التي أعدمت هذه الحقيقة. لقد حاول بورقيبة تأسيس حداثة بإفراغها من محركها الحيوي الخلاق ومن عمقها الداخلي أي الحرية. لقد فشل مشروعه. الحرية ليست حكما غير نهائي (أبدي) للعقل وحده ولكنها الشوق اللامتناهي في قلوب الجميع. اليوم وعندما أراجع بتواضع جاد كتاباتي السابقة يتبين لي أن الانغلاق القومي (الوطني) تحت ألوان الوطن يخون المبادئ التي بني عليها النضال الوطني ضد الاحتلال الأجنبي وأن المحررين يتحولون إلى آلهة (أرباب) أشد قسوة من المحتلين أنفسهم.
لم أكن تفطنت بعد إلى أنه في هامش هده المجتمعات كانت تنمو حرية داخلية وتتقد أشواق جادة للناس الصغار (الغفل) الذين يفكرون أن هناك أمر أكبر من أن يكونوا فقط أحياء وسواء كانوا يدعون الله أو يؤمنون بروح متعالية أو كائن أرقى أو ضمير حي وصوت رباني (كما عند روسو ) أو فكرة أو حق فإن عقائدهم هذه تذوب في شعلة كامنة من رغبتهم في الحرية.
لم أكن فهمت حتى هذه اللحظة أن الدين ليس طائفة منغلقة ظلامية وأن كان هذا الخطر كامن فيه أبدا فحيث وجد دين وخاصة هذه الأيام يمكن أن يستفاد من جهل الناس الذين يهيجهم التنظيم السياسي للأحقاد الحديثة كما يسميها جوليان باندا (Julien Benda ). نعم الدين يمكن أن يكون عامل إخضاع جبار للإنسان ويمكنه أن يكون ماكينة أزلية للعنف خاصة تجاه النساء لكنه ليس دائما ماكينة قهر إذ يمكنه (وهو حق من الحقوق المرسخة بإعلان 1789)أن يكون ماكينة مقاومة ضد القمع وهو الدور الذي اضطلع به الدين في إسقاط الإمبراطورية السوفيتية التي عملت على تذويب الدين وتحييده.
إن حشر الوعي الديني للمسلمين في التخلف ووصمه بالتطرف هو في ذاته موقف متطرف. أنا آسفة إذا أقول أن الحداثيين أفرطوا في وجهة النظر هذه وإذ يرفضون الاعتراف بذلك يصير الأمر احتقار (حقرة ) تاريخية ندفع الآن ثمنها غاليا جدا. إنا نفسي أخطأت إذ طالما ظننت أن الإسلاميين ليسوا إلا نفايات بشرية جرت دمغجتها بكره الحياة وتمجيد الموت. أبدا هذا خطأ إنهم يمكن أن يكونوا ديمقراطيين مسلمين يوجد في التيار المحافظ حدس عميق بالحرية وروح حقيقة من التسامح وعدم الإقرار بذلك هو حرمانهم من حق أساسي من حقوق الوجود وهذا يجري الآن للحفاظ على أفكارنا ومبادراتنا أي على كذبتنا الحداثية التي حلمنا ببنائها على حطامهم (أنقاضهم) وإلغائهم.
إنها نرجسية فكرية مبنية على الغرور والاحتقار لحياتهم الباطنة أو الحميمية. إن عقيدة الفرد (الإنسان) ليست بالضرورة عمى عقليا بل يمكن أن تمنحه الذكاء والحدس الذي يحجبه عقله غالبا من خوف أن يفقد امتيازاته وسلطته. لم يمكن لي الوصول إلى هذا إلا بعد ثورة 14 جانفي. أنا لست آسفة إذ أقر بذلك ولكن الذين عوملوا كملعونين وكمردة وأحيلوا إلى العدالة دخلوا معنا بفضل الثورة في جدال(حوار) ولقد تصرفوا كديمقراطيين مسلمين مثلهم مثل الديمقراطيين المسيحيين الأوربيين لقد شاهدنا رجالا كثيرا ونساء مثلنا تماما قادرين على الجدال دون حقد بل بحس سليم تحركهم مثلنا رغبة في السعادة والبحث عن وجود أفضل وحب للتقدم ونحن الحداثيون المتنورون المثقفون الغارقون في معرفتنا وفهمنا الخاص للتاريخ كنا متواطئين على لعنهم وإلغائهم وماذا لو كانت رؤاهم الأخلاقية محافظة مقارنة برؤانا؟
لماذا نظن أن التقدم هو امتياز الحداثيين؟ أبدا إن حداثيا يرفض حق محافظ في الحرية هو هادم للتقدم فالتقدم الحقيقي هو الاعتراف بأولئك الذين لا يفكرون مثلنا. إن التفكير هو هذه المعجزة التي منحت للجميع ليتطور على هواه بشرط أن لا يمنع غيره من الاختلاف. منذ الثورة وبمتابعة نقاشاتهم وجدت هؤلاء الديمقراطيين المسلمين ولمرات كثيرة متعلمين وأعمق نظرا من خصومهم الذين تبين أن فئويتهم قريبة من الانحراف الاستعماري المتخلف الذي يعبر عنه اريك زمور.
إن على لعريض وزير الداخلية السابق بعد الثورة ذو الشخصية وادعة وله استقامة مثالية وهو شخصية بريئة من كل حقد رغم سنوات العذاب في المعتقلات وهو معتقل مرة أخرى رغم أنه هو من وضع قانون تجريم الارهاب (والجهاديين) هل رأينا يوما وزيرا لدولة فرنسا موقوفا بسبب أن بعض الجهاديين قد سافروا من فرنسا إلى سوريا أو لأنه لم يحتط لجرائم إرهابية على الأرض الفرنسية؟
لا أفهم أيضا الكره المسلط على المحامي سيف الدين مخلوف الموقوف بدوره لقد تابعت خطاباته عندما كان نائبا وقد وجدته ألمعيا يحركه حافز ديمقراطي قوي يقوده بعض المرات إلى نوع من الغلو ولكن لم يخرج غلوه من المجال القانوني (أو الحقوقي) والذين يعاملونه كإرهابي لم يكلفوا أنفسهم يوما عناء الإصغاء إليه لقد خلقوا فزاعة ليخيفوا بها أنفسهم. عليهم أن ينظروا في مراياهم إذن لينظروا في أنفسهم وليتوقفوا عن النباح.
هؤلاء القوالون مثيرو (الغوغاء) ليتيقنوا أن الخراب الحالي هو نتيجة البروبغندا التي قادوها ضد أشخاص مثل مخلوف ومعارضين مثل نجيب الشابي وهم الذين بذلوا حياتهم من أجل ترسيخ الحريات. اعتقد أن المحافظين يمهدون طريقا سهلة لبلوغ الحرية للمؤمنين بالحرية. إن الوعي الشعبي يمتح من ثرائهم الداخلي الذي يغذي الحرية والحرية هي الحكم بين الناس. لا شك أنهم بوصولهم للسلطة ارتكبوا كثيرا من الأخطاء لأن الثقة في الله (الإيمان) بالله لم يكف لبناء العالم الحي و(الجميل)كان لابد من أشياء أخرى لذلك فإن ديمقراطية حقيقية لم تكن ممكنة بدون مشاركتهم لأنهم يعبرون عن العمق الأخلاقي أو الثقافة الديمقراطية الكفيلة ببناء عائلة ديمقراطية عريقة تتعلم أن تبني مع الآخر.
إن إقصاءهم من المشهد الديمقراطي سيكون كارثة لا عليهم فحسب لكن علينا نحن أولا. إن المطاردات التي يخضعون لها مجددا ليس مسموحا بها في منطق القانون والعدالة بل هي علامة على عودة فاشية سياسية مزمنة تتغذي من مسرحة منظمة لإقصاء (هذا الحيوان الاجتماعي). إن القمع الذي يلاحقهم ويلاحق آخرين محافظين وتقدميين يعيد إحياء الخوف من الإيقاف الذي يسلط على كل الذين يعبرون عن عدم توافقهم.
إن الحرية هي في مرة أخرى موضوع للخوف. واليوم فجبهة الخلاص وبفضل مؤسسيها من أمثال دليلة مصدق وسمير ديلو وعياشي الهمامي وإيناس حراث وآخرين خرجت ولحسن الحظ من ذلك الصمم التاريخي. إن أعضاءها من كل الحساسيات قد كسروا القواقع الأيديولوجية التي كانت تعيقهم عن النظر إلى خصومهم كخدم لمثال جمهوري متماثل (موحد). لقد تخلوا عن فئويتهم من الجانبين ويستحضرون لا فقط روح ونص دستور 2014 ولكن أيضا يكسرون سوء التفاهم بين المحافظين والحداثيين الذي سبب كثيرا من عدم الانسجام وسوء التفاهم الباقي بين سجناء الحذر المرضي.
إن الحياة السياسية ليست مسرحا لرغباتنا الخاصة أو أفكارنا أو آرائنا أو أحلامنا. نحن ننتمي بحرية ما لم تنحرف إلى رغبات عدوانية تتحكم في الذين لا يوافقوننا على خياراتنا الشخصية. هنا يكمن عطاؤنا الديمقراطي. في هذه الشجاعة الفوق طبيعية كما تسميها سيمون فايل التي تعبر عنها الآن جبهة الخلاص ليتم الاقتراب من كل الذين تجاوزا أحقادهم وأحكامهم المسبقة والذين يعيدون معا اكتشاف نفس الحب غير المشروط للحرية هؤلاء لا يخافون. هنا يبدأ الأثر الحقيقي للثورة …هنا نهاية الخوف هنا الديمقراطية.