لا يكفيك أن تكون باحثا أو كاتبا لتدّعيَ لنفسك ما ليس من المعارف لك. المعرفة ليست معلومات، فالمعلومات تكفي نقرةٌ على محرّك بحث لتحصل عليها، والأجهزة تشتمل على طوفان من المعلومات لا تتّسع لها أعمار مديدة. المعلومات مبذولة، بينما المعرفة تقتضي شرط التجرّد وقدرة على تحليل تلك المعلومات ومعالجتها معالجة تحترم عقول المتقبّلين ولا تتعالى ولا تمارس وصاية عليهم.
شاهدت حوارا على شاشة إذاعة موزاييك أف أم أجراه الإعلامي حمزة البلومي مع كاتب لم أكن أعرفه، من قبلُ، يدعى محمّد الشريف الفرجاني. الفرجاني هذا يتحدّث عن الإسلام السياسيّ كما لو أنّه به خبير.. ولا أراه كذلك.
ولي على الحوار الذي دار بين الإعلاميّ والكاتب تعليق:
1. حمزة البلومي ليس أدلّ على مستواه العلميّ والأخلاقيّ من عبارته الشهيرة " الكتب آش نعملو بيها؟" التي قالها في سياق مناكفة أُمِر بها ضدّ الدكتور محمّد المنصف المرزوقي لمّا كان رئيسا للجمهوريّة، وهي عبارة تبيّن أن الفتى لا يقرأ ولا يحبّ الكتب، إذ الكتب متعبة لمن كان فرحًا، مثله، مسرورا. وعليه فهو غير أهل لأن يناقَش في فكرة أو يحاسَب على عبارة.. هو من ذاك القبيل الذي يأكل، من قوله، الخبزَ لا يجوز ما يأكلُ.. وحتى يستطيع أكل الخبز فعليه أن يقول ما يُطلَب إليه قولُهُ لا أكثر.. هذا النوع من الإعلاميين شاشة تنقل ما يُرسَم عليها، فلا لون ولا طعم ولا رائحة.. ولا أراهم في مستوى المساءلة أصلا.
2. السيّد محمّد الشريف الفرجاني، إمّا أنه لم يقرأ راشد الغنوشي ويتحدّث عنه بما يرضي المذيع الذي دعاه ليحاوره والجهات المانحة التي تستعمله، وإمّا أنّه قرأ الغنوشي ولم يفهمه.
- مقولة التدافع اشتقّها الغنوشي من النص القرآني ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ…)) لكي لا يستعمل مقولة "الصراع".. الرجل يتحوّط في استعمال لغته.. مقولة الصراع مقولة جدليّة يتبنّاها اليساريون، ومن بَناتها مقولة العنف الثوريّ التي يقول بها بعض اليسار.. وكم نفى اليساريون الثورية عن الإسلاميين لأنّهم في فهمهم إصلاحيّون، وجبناء لا يسلكون طريق العنف الثوريّ.
- الغنّوشي لا يحبّ العنف ولا يقول به، وهو يرى في "الصراع" تنافيا وتدابرا، بينما يرى "التدافع" تفاعلا، والتفاعل تشارك وليس مغالبة… المغالبة ينفيها الغنوشي في خطابه ولا يدافع عنها كما ادّعى الكاتب المذكور… نحن، هنا، نحاكم الرجلَ إلى خطابه ونحاول أن نفهمه بعيدا عن العداوة والانحياز.
- الحديث عن الثقافة الديمقراطية التي يرى فيها الفرجاني شرطا للديمقراطية فيه وصاية على الشعب من طائفة تظنّ أنّها فازت بمعرفة ليست لغيرها. وهذا من إرث اليسار التونسيّ الذي لا يزال يرى في وعي الناس وعيا بقريّا. الإعلام في تونس تغلب عليه الأمية ويريد أن يسوق الناس إلى سطحية القائمين عليه.. هذه الطائفة لا تفهم دينا ولا سياسة لأنها تكتفي باجترار ما كتب الآخرون وتنقل حرفيا نتائج الأفكار التي تَفِدُ عليها.
- قوله إنّ الإسلام السياسي لا يتبنّى الديمقراطية لأنّ الثقافة الديمقراطية غير موجودة حتى لدى الأحزاب التي تدّعي أنّها ديمقراطية، هل يليق بباحث رصين أن يقول مثل هذا؟ أينتظر الإسلاميون أن يكون "الديمقراطيون" ديمقراطيين حتّى يتبنّوا الديمقراطية فنصدّق تبنّيهم لها؟ هذا هراء من شخص لا يصدق عليه لقب باحث ولو كتب الكتب ونشر ما نشر. الغنوشي، كما أفهمه، على خلاف كثير من الإسلاميين، يرى في الدين منهج حياة ونظام حكم، وهذا رأيه، وهو يدرك أنّ انخراطه وحزبَه في الزمن السياسي الحديث يمرّ حتما عبر الديمقراطية التي يراها أنسب له ولحركته من غيرها وفي كتبه ما يشهد بذلك، ولأنّه يعلم أنّ له امتدادا شعبيا مقبولا فهو يعتمد الديمقراطية لإدارة الخلاف بينه وبين منافسيه على السلطة. ولذلك فلا معنى لقول الفرجاني الذي يصرّ على نفي الديمقراطية عنه، كما ينفيها عن غيره.
- حتّى يمعن هذا الفرجاني في إدانة الإسلاميين ونفي الديمقراطية عنهم ربط بينهم وبين المستشرقين المعادين: كلاهما يقولان بالاستثناء الإسلامي: المستشرقون يقولون بذلك حتى يطردوا الإسلام والمسلمين من زمن الحداثة وينفوا عنهم الديمقراطية. والإسلاميون يقولون بذلك ليبرزوا تمايز الإسلام عن مقولات زمن الحداثة واعتبار الديمقراطية كفرا لأنها تتحدّث باسم الشعب لا باسم الله.
وفي هذا التوجّه كسل فكريّ واحتكام إلى منطق ثنائيّ يظهر الحداثويين في ضفّة والعالم الآخر، الإسلاميين في الداخل والمستشرقين في الخارج، جميعهم خصوما في ضفّة مقابلة. وتلك هي الجوهرانية عينها.. لقد ورث أمثال الفرجاني أزمة ثقافة ستاتيكية مُنغلقة على مفهوم الجوهر تستعيد صراعات الهويّات وتعيد إنتاجها وإن زعمت تمايزها عنه. الفرجاني جوهراني يصم بالجوهرانية غيره يصدر، عن غير وعي ربّما، عن ثقافة عنصريّة غير علمية وغير تاريخية تتميّز بالانتقائيّة وبعزل الظواهر عن شروطها.
- ما الذي يعنيه قولُه: انتصر بورقيبة فتصالحوا (الإسلاميون) مع بورقيبة وانتصر بن علي فتصالحوا مع بن علي وانتصر السيسي فتصالحوا مع السيسي وانتصر الحسن الثاني فتصالحوا مع الحسن الثاني، وانتصر محمّد السادس فتصالحوا مع محمّد السادس؟
هل هذا كلام يقول به عاقل فضلا عن باحث يدّعي له باعا طويلا في البحث عن الأفكار والغوص فيها؟
حين قال الكاتب النحرير هذا قلت في نفسي: " آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجله"
تبًّا لمثقّفين لا يرون في الثقافة غير دَسَمٍ يجعل منهم غرقى في تخمة تلتهم فطنتهم… وتعكّر صفوَ العقول.