اتّخذ خلق كثيرٌ في فورة الشبيبة مذاهب ونحلا رأوا فيها انتماء لأُنس الجماعة وقرّوا عينا بذلك ! وإنّ لهم فيما اتخذوا ملاذا من وحشة المفرد ورضى بالأوساع وقبولا بالمشترك، فعكفوا على الكتب يقرأونها والكراسات يحفظونها والنضالات يخوضونها !
كان هذا زمن غلبة السلطان وظهور أمره واستشراء ظلمه ونشاط أذنابه ! ولسنا نعتب عليهم فيما اختاروا -وإن اخترنا الهوامش المعرفيّة على الاحتشاد للمذهب !- بل نراه أمرا محمودا فإن لم يكن إلاّ ترسيخ المعرفة وإن كان في ضيق الملّة والنِّحلة ونهم القراءة وإن كانت لصحائف صفراء، لكفاهم ذلك !
ولكن -وهي في عُرف النّحاة أداة لرفع توهُّم حصل من كلام سابق- ظهر من أمر بعضهم ما لو اطلعتم عليه لولّيتم الأدبار من سوء بالغ وتبذّل ركيك وسماجة ضدّ الطبائع والأعراف. ولسنا نقصد بحديثنا هذا من تمسّك برؤيته وانغلق على فهمه فما غيّر ولا بدّل تبديلا. فهؤلاء لن يفيد في تفتيت صخرة جماجمهم الحديد ولا أمل في زحزحة أقفيتهم عن معتقدهم. ورغم ما فيهم من تحجّر وتعصّب و”طيران الماعز” فإنّهم أقلّ سوء من أصحابنا أولئك !
أصحابنا المقصود بهم حديثنا هم من ابتليوا على كبر وجاءتهم الفكرة وقد بلغوا شيبة كهولتهم وكذلك -وهؤلاء أسوأهم وأكثرهم بلادة وابتذالا- من غيّر مذهبه إلى الضدّ وتبيّن لرأيه السديد أنّه كان على خطأ والحقّ كلّه في عكس ما كان يتبع!
فقد يكون في زمن ما “ملحدا منكرا للديانة جاحدا” فيأتي عليه زمن يثوب إلى رشده وينقلب إلى سرّة الاعتقاد ويغرق في إظهار تديّنه ويأمر النّاس بالاستغفار كثيرا ويخنقك بالآية المُحكمة وغير المحكمة حتى لتشعر أنّك ابليس أو أحد ذرّيته !
وقد يكون صاحبنا ممّن ضمّتهم جماعة “اخوان الصفاء” فغرق في رسائلها وأكل من موائدها ولمّا نزلت بهم المحنة تبرّأ منهم وادعى أنّ الكتب قد “طوّرته” وأمسى كنائحة المآتم يسبّ الدين ويزري بأهله ويحشر غليظ القول وفاحشه كمن يتخلّص من ذيل يراه في قفاه ولا يراه غيره ويصل في إظهار براءته مما كان فيه أن يجاهر بعورته الركيكة !
وكان يمكن أن نتبسّط في هذا الأمر ونأتي على سوءات كثيرة.. ولكننا أتينا به على قدر الحاجة.