لن أفصل. مطاردة المهاجرين في صفاقس ومدن أخرى واستعمال وسائل بدائيّة في التنكيل بهم يشبه إلى حدّ بعيد أمنيات صريحة باح بها بعض " المثقفين " و " الحقوقيين " و " الأساتذة " بتعليق المعتقلين السياسيين من أقدامهم والتنكيل بهم حتّى لا يعودوا إلى صنيعهم في المقاومة.
أحد الأصدقاء قدّم لي شهادات سمعها من بعض هؤلاء، شيء يشبه ما تفعله الدول العنصريّة بالمختلفين عنها، عنجهية كولونيالية يستبطنها دعاة " التنوير " هنا تدعو إلى تخليص العالم من " غير المتمدّنين " ومن " الظلاميين " الأشرار ومن الكائنات " البدائيّة " غير القابلة مطلقا للتحضّر.
مطاردة المختلف، لونا، فكرة، دينا، عائلة، جهة، انتماء جغرافيّا، سياسيا، تدخل في صميم تركيبتنا التونسيّة المعقّدة بألف عقدة وعقدة تاريخيّة، ركام هائل من الانحطاط خلّف نزعة تعال مرضيّة نتوهّم فيها أنّنا الأفضل، وأنّ الآخرين كائنات شرّيرة مخيفة ، ولم يفعل وجود المهاجرين هنا، تماما كوجود المعتقلين في السّجون، غير إطلاق هذا الشعور بالتعالي، تقوّيه مخاوف بعضها حقيقيّ وجلّها وهميّ ومفبرك يغذّي كلّ رغبة في المحو.
ولأنّ الموقف من المهاجرين والمعتقلين واحد، ولأنّ كليهما نتاج واقع شعبويّ يتخبّط، فإنّي لا أصدّق " المثقفين " الذين يدعون إلى الفتك بالمعتقلين والرأفة بالمهاجرين. الموقف واحد، والدفاع عن الإنسان واحد.
ولا أصدّق سوى تلك الأيدي التي امتدّت لتقدّم للمهاجرين بعض خبز وماء، من أجل بقاء أطول قليلا، وأصدّق صديقتي التي أنقذت مهاجرا سودانيا صادفته في طريقها بعد أن تجاوز الحدود الجزائرية، وكان شبه ميت، فآوته وأطعمته وسلّمته مالا ليستقلّ القطار ، ومن تونس العاصمة أعادته المفوضيّة إلى السودان.
نجا من الموت، ولم ينج من الحياة، لأنّ الحياة يملكها أولئك الذين يملكون المال والقرار.
يملكون العالم.