اعتمد في هذا المقال بشكل كُلّي على "سنوات الطين" للمؤرخ عدنان المنصر، بداية من صفحة 131 حتى صفحة 137، وصفحة 312 حتى صفحة 333 . لنقل أولا، ان السلطة لا تدوم، وان من بإمكانه اليوم الهروب من المحاكمة،فان غدا شأن اخر والدولة التونسية لابد ان تُحاكم من اجرم في حقها وتأمر عليها بالاستعانة بقوى خارجية.
في ربيع 2021 وخلال زيارة قيس سعيد الي القاهرة، تسربت وثيقتان لم يقع تكذيب مضمونهما بشكل رسمي من الدولة التونسية . الوثيقة الأولى تتحدث عن محتوى لقاء تم بمقر المخابرات العامة المصرية تراسه مدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل، وهو أيضا رئيس مكتب عبد الفتاح السيسي، وبالتالي الرجل الثاني في النظام، كما تشير الوثيقة الي ان اللقاء حضرته عناصر تونسية هي وزير الخارجية عثمان الجرندي ونادية عكاشة و وليد الحجام، مع مشاركة عن بعد لعناصر أخرى.
في نفس السنة وفي شهر ماي سرّب موقع ميدل ايست أي وثيقة تتعلق بخطة الاستيلاء على السلطة، وقد تمت العملية فعلا في 25 جويلية بشكل يكاد يكون حرفيا مع ما جاءت به الوثيقة. سوف لن تكذب لاحقا نادية عكاشة صحة الوثيقة مكتفية بالقول "ديوان رئيس الجمهورية يتلقى يوميا ورقات وتقارير مختلفة وان هذه الوثيقة قد تكون احداها..."
حسب الوثيقة الأولى، ثم اللقاء في مقر المخابرات العامة المصرية صبيحة يوم 11 افريل 2021، أي اليوم الأخير من زيارة قيس سعيد. في هذا اليوم لم نشاهد الجرندي ولا عكاشة او وليد الحجام في لقاء علني مع المصريين، وهي قرينة على صحة الاجتماع السري في مقر المخابرات العامة. تشير الوثيقة الي مشاركة احد نواب الدستوري الحر وهو مجدي بوذينة، وذلك عن بعد، كما شارك عن بعد أيضا المستشار الاميري لولي عهد دولة الامارات عبد الخالق عبد الله، اما الجانب المصري فالي جانب عباس كامل كان هناك وزير الخارجية سامح شكري.
نجد في الفقرة الأولى من محضر الاجتماع كلمة سامح شكري الذي اكد للوفد التونسي "..استعداد مصر للتعاون الشامل في سبيل استرجاع الدولة التونسية من ايدي العابثين بأمنها واستقرارها". وابلغ (سامح شكري) الوفد التونسي رسميا نية الرئيس قيس سعيد إجراءات حل البرلمان واسترجاع الدولة من عبث العابثين". اما عثمان الجرندي، ودائما حسب نفس الوثيقة فقال "..بان قيس سعيد يستعد لفرض رؤيته وانه يأمل في التنسيق المتبادل والعمل سويا لإنجاح الامر المُزمع تنفيذه". ماهو جدير بالملاحظة ان الفريقان لا يتفقان فقط في "الإطاحة بالإخوان في تونس" وانما يشتركان في الموقف من انتفاضات الشعوب العربية المقهورة واعتبارها "فوضى جلبت الخراب والدمار ". لم يُنسّب الفريق التونسي هذه النظرة للثورات العربية ولم يدافع عن "الثورة" التي مات فيها مائات التونسيين وجعلها قيس سعيد حصان طروادة الذي ركب ظهره الي قرطاج. كل ما عبرت عنه نادية عكاشة -دائما حسب الوثيقة – هو "اعجابها بنجاح التجربة المصرية، وامتنانها للرئيس عبد الفتاح السيسي وتجاوبه السريع في مساعدة تونس ..وان الظروف مُهيأة الان للقضاء على حكم الاخوان ..وعبرت عن انفتاح الرئاسة التونسية لجميع المقترحات التي من شانها إنجاح الخطة المُزمع تنفيذها". اما عبد الخالق عبد الله، المستشار الاميري لولي عهد دولة الامارات، فتقول الوثيقة بانه "ابدى استعداد دولة الامارات لاي دعم مادي واقترح تصوره لحل البرلمان ونشر الجيش بما يضمن نجاح العملية وان لا تتعرض لاي انتكاسة كما حدث في تركيا 2017".
هذه "الخطة المُزمع تنفيذها" تتطلب تخريبا وتعفينا وتعطيلا داخل البرلمان، وهو ما تكفّل به الدستوري الحر (وكذلك سامية عبو ومجموعتها). تقول الوثيقة بان مجدي بوذينة، الذي تقدمه نفس الوثيقة على انه "المُنسّق بين البرلمان والرئاسة واللجنة المكلفة بالإطاحة بحركة الاخوان"، قد صرّح في هذا الاجتماع "بالتزام الحزب مواصلة العمل في تعطيل وكبح جماح حركة النهضة..حتى اسقاط حكم الاخوان". ستقول عبير موسي لاحقا، وبعد ان يئست من مشاركة سعيد السلطة "الخدمة الكل خدمتها انا".
تقول الوثيقة بان الاجتماع انتهى باتفاق الأطراف على مواصلة التشاور وان سامح شكري سيقوم "بزيارة عمل الي تونس خلال الأيام القليلة القادمة مرفوقا بمجموعة من الضباط الاكفاء"، وبالفعل سيزور سامح شكري تونس بعد احدى عشرة يوما من الاجتماع المذكور.
لنذكّر مرة أخرى بان هذه الوثيقة لم يقع تكذيبها من الرئاسة التونسية ولا من الرئاسة المصرية ولا من الدستوري الحر، كما ان تسلسل الاحداث قبل وبعد 25 جويلية قرينة قوية على صحتها: اتبعت الاحداث بشكل يكاد يكون حرفيا ما دار في اجتماع مقر المخابرات العامة المصرية.
سوف تُعطينا وثيقة أخرى مسربة في 23 ماي 2021 قرينة أخرى على صحة اجتماع مقر المخابرات العامة المصرية، وسوف تُقدم قبل شهرين من 25 جويلية التفاصيل التي ستتبعها الاحداث والإجراءات بشكل يكاد مطلقا. لنقُل، مرة أخرى ، بان هذه الوثيقة لم يكذبها ديوان رئيس الجمهورية، وان نادية عكاشة قد اكتفت بالقول بان "الوثيقة ليست من تحرير الديوان الرئاسي..وهي بذلك لا يمكن ان تكون مسؤولة عن محتواها". اما الصحافة الاستقصائية التونسية فستتأكد من صحة الوثيقة يوما واحدا بعد نشرها (انظر محمد الحداد، "محاولة الانقلاب في تونس،خفايا وثيقة "سري مطلق"، موقع بر الأمان،24 ماي 2021).
ما يعنينا هو ان الوثيقة تفعيل وتفصيل لما جاء في اجتماع مقر المخابرات العامة المصرية. علينا ان نمتحن دقة الوثيقة عبر مقارنة التوصيات التي جاءت بها مع الإجراءات التي وقع اتخاذها فعلا بداية من 25 جويلية:
• دعوة مجلس الامن القومي للانعقاد، ونصحت الوثيقة بتوسيع تركيبته، وهو ما تم فعلا في 25 جويلية.
• تنصح الوثيقة باستيلاء قيس سعيد على السلطة التنفيذية، وهو ما تم بإقالة المشيشي واحتفاظ سعيد بالحكومة.
• تنصح الوثيقة بإقالة وزير الدفاع إبراهيم البرتاجي ومدير القضاء العسكري وهو ما سيتم فعلا ساعات قليلة بعد اعلان 25.
• تنصح الوثيقة بتعيين مدير امن رئيس الدولة والشخصيات الرسمية وزيرا للداخلية، وهو ماسيتم فعلا في 26 جويلية.
• اتخاذ اجراء حدودي في كل النواب والسياسيين ورجال الاعمال..وهو ماسيتم فعلا .
• اما الخطاب الذي برر به قيس سعيد انقلاب 25 والذي يبدأ بالديك وينتهي بالحمار فقد تعرضت له الوثيقة باطناب.
علينا ان نقول في الأخير: اذا كان لديك الان السلطة فتسجن الناس ستة اشهر دون ان تقدم دليلا واحدا على وجود تأمر على الدولة التونسية، فستجد النيابة العامة يوما ما الأدلة والقرائن والشهود على اخطر عملية تأمر على الدولة التونسية بالاستعانة بقوى خارجية.
ثانيا : لا تستطيع بيانات التهديد ان تجعل من الشعب التونسي مجرد حيوانات مرعوبة وخائفة، ومن يرضى بذلك انما يرضى بان يتخلى عن طبيعته كانسان.
اخيرا: كتاب " سنوات الطين" مُهم لمن اراد ان يفهم المسار الطويل المليئ بالأخطاء والخطايا والاوحال التي ادت الي انقلاب 25جويلية.