كنت ولا أزال أبدي تعاطفا مع فئة لا تزال قليلة من مناضلي حركة النهضة. أولئك الذين كنت أقابلهم في الطرقات فأشهد فيهم حجم جريمة الدولة وتنكيلها بالنّاس ومع ذلك لا تخطئ في أعينهم آيات الرّضى فلا تتبرّم نفوسهم إلاّ من تجنّب الأقربين لهم ! كنت أصافح بعضهم كشكل من المناكفة التي لا أملك غيرها وأتلطّف معهم كمن يخجله أنّه لم يدفع ضريبة “ثقيلة” لمبادئه. وكان هذا يسعدهم إلى حدّ ولم أسمع أحدهم شكا همّا أو ضيقَ رزق أو أبدى ندما.
كانوا يحتملون أذى النّاس واخباريات البوليس عندما كان السعي بهم لدى الحاكم دليل “وطنية” وسببا وجيها لطلب “حصة زائدة من العلف المركّب”.. شهدت هذا بأمّ عيني وابيها ! لم تكن هذه الفئة تخالطنا في المقاهي ولكنها ترفع يدها بالتحيّة لنا وإن تجاهلها بعضنا، فالجبن ساعتها موزّع توزيعا عادلا بين الناس ! كان هؤلاء -ولا زلت اراهم اليوم ايضا- متعفّفين جدا كمن قام بواجب لا يسأل من ورائه متاع الدنيا فأغلبهم يكتفون منها بما يقيم الأود من مأكل وما يستر الواحد من ألبسة وما يظلل الأسرة من أبنية… أولئك هم “الخوانجية” حقّا الذين كنّا نحبّهم ولكننا لا نستطيع لهم شيئا !!!
ثمّ قامت الثّورة …
خرج من هؤلاء ابناء واولاد عمّ وأولاد خال وجار تذكّر أنه “تصدّق” عليهم يوما وقريب رأى أنّهم “المستقبل” و”كلب سوق” مستعدّ ليغادر “كلبيته” ومعارف بعيدة جددت العلاقة بعد انقطاعها زمن “توزيع الجبن بالعدل” ورئيس شعبة “لم يقوّد كثيرا” وملهط تريد أن تجد لنفسها موقعا وفروخ حديثي عهد بالاستقطاب…
خرج كثيرون و”استنهضوا” علينا.. وفتحوا علينا بالوعات ركاكتهم وفسقوا بـ “ضعفهم اللغوي” وتكوّنت مجموعات “عمّال الحضائر الحزبية” وبدأ الشغل يا حبيبي.. ونزل الخطاب إلى “قعر القعر” وجاءت المهاجي والمخازي كمن في قلبه شيء منّا (حالة من هستيريا الانتقام من صمتنا ربما) فإذا خاطبتهم قالوا لك: “نحن أصحاب البلد الآن ولن ترى إلا ما نراه”!!.. هؤلاء المتنهّضون الذين أعافهم !!
وبدأت ماكينة الانتخاب تدور …
لم أر أحدا من الفئة الاولى ترشّح لمنصب او آثر خطّة بل بالعكس، ظلوا على عفّتهم وتقوى الله في انفسهم ومازلت -حتى اليوم- اصافح بعضهم في الطرقات فلا أشكي ولا يشكون.. الابتسامة نفسها، حرارة السلام نفسها.. كأنّا نفهم بعضنا ونخجل من بعضنا..