كان الراحل (س) صديقاً حميماً جداً لي، وكانت لديه أيديولوجيا ظاهرة متناقضة مع رؤيا باطنة. حين نكون معاً يطرح من الأفكار والأسئلة ما لا يتوافق مع ما يظهره من أيديولوجيا، أما حين ألقي محاضرة ما فيكون أول من ينبري للهجوم الشديد على أفكاري دون أن يكترث بما أعلم من أفكاره. وأستمع إليه وأنظر بود شديد مبتسماً. سألته مرة: ما القصة يا صديقي: تهاجمنا أمام الناس وتوافقنا في الغالب عندما نكون معاً، فيضحك قهقهة ويقول لي: «يا دكتور، يا حبيبي، أتريدني أن أتحدث أمام الجموع كما أتحدث معك». حين رحل حزنت جداً على رحيله وتألمت، لقد رحل دون أن يظهر على حقيقته.
إن وقائع الخوف من الظهور الحقيقي وتوسل الظهور الزائف وقائع لا تُحصى، وفي الحياة اليومية هناك ما يسميه المجتمع: خيبة الأمل. وخيبة الأمل في حقيقتها نوع من الدهشة التي تصيب المرء من ظهور شخص ولّد انطباعاً محموداً عنه، وفجأة يُظهر حقيقته المناقضة غير المحمودة لذاك الانطباع ولتلك الصورة التي كونها الآخر عنه، أو العكس في اتخاذ شخص ما موقفاً محموداً أخلاقياً متناقضاً مع مواقفه غير المحمودة.
لقد طرحت في كتابي (الأنا) مشكلة التناقض بين الأنا الظاهر والأنا الخفي، وهذه ظاهرة عامة بدرجات متفاوتة لدى جميع البشر بلا استثناء. وعرّفت الحرية، في أحد وجوهها بأنها: زوال الهوة بين الأنا الظاهر والأنا الخفي بحيث لا يعود هناك وجود للأنا الخفي إلا لضرورات متعلقة بالخطر من الظهور. ويبدو لي الآن بأن الحرية بهذا المعنى أمر متعذر الحدوث. لكني أريد هنا أن أتحدث عن الخوف من الظهور الممكن الذي لا يسبب خطراً على الحياة.
دعك عن الحياة العادية المليئة بالمجاملات وعادات الكلام اليومية التي هي شكل من أشكال الأدب واللطف مع الآخرين. لأن حديثي ينصب على الموقف. كل البشر لهم موقف مما يجري في الحياة، لكن هناك فئات هي فئات المثقفين والفاعلين تظهر مواقفها من القضايا العامة وأمام أصحاب الشأن، ويكون لها تأثير على الوعي العام، وينطوي هذا الإظهار على نوع من عدم الصدق مع حقيقة ما يضمرونه.
المشكلة ليس في المواقف الانتهازية الكاذبة المرتبطة بالمصلحة، فمهما كان عدد الانتهازيين فإنه يظل محدوداً. المشكلة في ثقافة الخوف التي تمنع أغلب البشر من الظهور الحقيقي في مواقفهم من الحياة بكل أشكالها، فالخوف من قول حقيقة ما يفكر به الإنسان في مواقفه لا يعني سوى اغتيال الحقيقة، فالخوف من قول الحقيقة يعني إشاعة عالم الكذب ونشر الزيف.
وقد يتساءل المرء ممن وممَّ يخاف الخائفون من الظهور؟ في المجتمع، أي مجتمع، هناك سلطتان يحسب حسابهما المرء حين يهم في الظهور: سلطة المؤسسة الرسمية القانونية من جهة، والسلطة الاجتماعية المتوارثة، من جهة أخرى.
من سلطة الخوف التي تهدد الحياة، خوف من الطاغية وأجهزته، خوف من إعلان الحب، خوف من العامة وردود فعلها، خوف من الأصولي الذي نصب نفسه حارساً، خوف على اللقمة، والأولاد، خوف على العمل، الخوف من التعبير عن الخوف والخوف على الحياة.
ويقود الخوف إلى حالة معروفة لدى الجميع ألا وهي تناقض السلوك مع الوعي، فالسلوك انعكاس للوعي.
فإذا كنت مؤمناً بقضية ما فقد يحملني الخوف على سلوك متناقض مع ما أنا مؤمن به. وهذا الانشطار داخل الأنا يولد شكلاً من الألم النفسي الذي إن تعاظم واستمر فقد يؤدي إلى حالة مرضية.
الخوف هذا هو ذا الجحيم. الخوف يحرمنا من الوجود الحقيقي المرتبط بشجاعة الوجود.