هل انتصر الكيان بالمجــزرة ؟ هل سينتصر ؟ أبدا. هو فقط يؤجّل موته من جيل فلسطيني إلى جيل. كلّ جيل، بعد سنة، بعد عشر سنوات، بعد خمسين، سيعيد إنتاج الرفض والغضب والثورة على الظّلم. لن يكونوا هنودا حمر رغم العجرفة الأمريكية، ورغم الإيمان بأنّ فلسطينيّا يموت خير من فلسطينيّ يعيش، وأنّه لا بدّ من قتلهم لآخرهم حتّى لا يختلّ نظام العالم، حتّى لا تفتح ثغرة في الجدار.
كلّ هذا الألم صلابة روحيّة جديدة لهم ستذهلنا دوما، وسنتساءل في ذهولنا نحن الذين اختبرنا الألم في درجاته الدّنيا إن كان هؤلاء الأطفال الذين يعلّمون بعضهم البعض الشّهادة قبل الموت، ويتحدّثون عن الصّمود أمام الوحش، ويحلمون تحت القصف بالمدرسة، ويودّعون آباءهم بالكلمات الشجاعة، إن كان من سينجو منهم وينمو ويكبر سيصبح مثلنا بشرا عاديين أم درجة أسمى في البشريّة ؟
لا أعتقد أنّ القصّة ستنتهي كما يرغب رعاة الجحيم. فكلّ جحيم جديد سقوط جديد لنظام عالميّ كاذب وغير عادل: سلام الجبناء، إنسانيّة الغاصبين، حقوق الأقوياء، خطّة ابراهام الماكرة، موت الشّعوب.
لم تمت الشّعوب، وستخرج كلّ مرّة من كهفها الاضطراري ودرقتها التي تحتمي بها من عنف التاريخ القاتل لتصرخ وتقول ألمها عاليا. ولن يموت الأطفال مهما كان القتل. لأنّ موت الأطفال هو موت اللّه. واللّه حيّ لا يموت.
يا كيان يا غاصب، أطفالنا اليوم في الشوارع يصرخون: مقاومة مقاومة لا صلح ولا مساومة. فماذا أنت فاعل ؟
سرت اليوم وراء الشباب. منذ أن ركبت قطار الزهراء سرت وراء التلاميذ الذين ازدحم بهم القطار بشكل لم أره من قبل حتى أني خشيت أن ينقصم. التلاميذ على الأرصفة في رادس لا يستطيعون الصعود فيتعلّقون بالأبواب فينهرهم السائق ويمضي.
في جبل الجلود لم ينتظر التلاميذ القطار بل ساروا أفواجا على أقدامهم نحو برشلونة فالمسرح. سرت وراءهم حتى شارع الثورة وذبنا وسط الموج البشري.
بقيت قريبا منهم بعيدا عن الجماعات المتأدلجة والمتحزّبة المتحلّقة كالعادة وسط الشارع متفرّقة ومتعادية . المشهد من فوق يوحي بالوحدة. من الأسفل تتوضّح الرؤية. وفي كلّ مرّة يغرق الشارع في لجّة بشريّة جديدة قادمة من كليّة ما أو معهد. مشهد طلبة كليّة الطبّ بالرداء الأبيض كان الأجمل.
هم عيّنة من جيل لم تجد معه البروباغندا ولا غسيل الدّماغ. لكن كان العدد غفيرا وغير مسبوق حتّى أنّني فكّرت إن كان التلاميذ بكلّ اندفاعهم ونقائهم سينجون من التّوظيف والتلاعب من أجل غايات شعبويّة انتخابيّة. كانوا رائعين بعيدا عن هذه الفكرة التي لم أستطع أن أطردها من رأسي. كانوا صادقين حتى أنّني خشيت عليهم مكر السياسة هنا، أو كيف تصبح مأساة غزّة، وسط التوظيف الشعبوي، مصعدا للسّاسة هنا.
أريد أن أطرد هذه الفكرة حقّا. لذلك أكتبها.