كيف يبدو الواقع الموضوعي في غزة ودولة الكيان والمنطقة بعد أسبوعين من عملية طوفان الأقصى؟ تقديم توصيف محايد لما يجري ليس بالعمل المعقد:
أسبوعان من القصف الهمجي والإجرامي العشوائي لم يغير شيئا من ميزان القوى العسكري في غزة. مازالت دولة الكيان تحشد القوات وتستقبل الذخائر والأسلحة والحلفاء، وهم جميعا قوى عظمى بالمفهوم السائد، ولكن لا المقاومة استسلمت، ولا هي أنقصت حتى من وتيرة قصفها للعدو في كل مكان تقريبا، بمدى يتجاوز كل يوم ما كان قبله.
عوضا عن تهجير الفلسطينيين من غزة، فإن ما يحصل هو إخلاء عام للمستوطنات في محيط غزة حتى ثلاثين كيلومترا تقريبا، وكذلك في الجليل، وتهجير للمستوطنين. هناك بضع مئات الآلاف من هؤلاء يضطرون اليوم إلى النزوح بعد أن فقدوا الأمان وبعد أن لم يستطع أقوى رابع جيش في العالم نظريا، أن يمنع صواريخ المقاومة ورجال فرقها الخاصة من أن تطالهم في ثكناتهم وبيوتهم ومطاراتهم ومؤسسات دولتهم الأكثر بعدا وحماية.
وفي حين تغلق كل المنافذ على غزة، ويقوم العدو بمنع الماء والكهرباء والطعام والوقود والمستلزمات الطبية عن سكانها، تعويلا على انتفاضة السكان ضد المقاومة وعزلها عن حاضنتها الإجتماعية، فإن ما يحصل على الأرض هو عكس ذلك تماما. يتلقى الكيان كل الأزمة، يتوقف إقتصاده، يتزاحم سكانه على أبواب المغادرة في المطارات، يتصارع قادته فيما بينهم، وتتصاعد انتقادات الرأي العام ضدهم. يحصل ذلك كله في حين أنه لا أحد يحاصر الكيان ويقطع عنه الماء والوقود والذخيرة والدعم.
يفقد الكيان معركة الإعلام والدعاية يوما بعد يوم، وتنطلق مظاهرات متعاطفة مع غزة في العواصم الغربية التي هرع قادتها لعواصم الكيان من أجل الإسناد المعنوي والمادي للصهاينة. عندما يعجز أحد أقوى الجيوش حتى عن تحديد مواقع خصومه واستهدافهم، وعندما يحصل ذلك وهو محتقن ومتوتر، فإنه يفقد يوما بعد يوم قدرته على التخطيط والتنفيذ الناجع، ويبدأ في ارتكاب الأخطاء. قصف مستشفى المعمداني في غزة كان منعرجا بالنسبة للرأي العام الدولي، وخاصة في عواصم الدول الداعمة للعدوان. يظهر يوما بعد يوم عجز النخب السياسية والإعلامية المتصهينة داخل هذه الدول عن تقديم الرواية الصهيونية للأحداث وتمرير دعايتها وحماية أكاذيبها، ويتحرر الرأي العام من تأثير هذه النخب ليقدم لفلسطين وأهل غزة بالذات تعاطفا غير متوقع لولا تلك الجرائم والمجازر والتوتر الذي يصيب ساسة الكيان وجنوده.
منذ السابع من أكتوبر، تتحكم المقاومة تماما في نسق الأحداث، ويحصل ذلك دون إبداء أي توتر ظاهر. الرسالة من ذلك؟ أنها واثقة من النصر. يجعل ذلك الفلسطينيين مطمئنين، واثقين مثلها، مقدمين الشهداء بكل الرضى. يقابل ذلك مسعى الكيان لترهيب الغزاويين، وقصفهم عشوائيا في كل مكان، وينتصر عليه. المتوتر اليوم ليس الغزاوي المحاصر، بل المستوطن الذي يفترض تفوقه.
منذ ملحمة السابع من أكتوبر، ترسل "القوى العظمى" حاملات طائراتها وطائراتها وسفنها الحربية الأكثر تطورا، وصواريخها وذخائرها وفرق المخابرات والمساعدة العملياتية واللوجستية إلى المنطقة، وتتأهب قواعدها الموجودة على قطر ألفي كيلومتر من غزة. كل ذلك إسنادا لكيان عنصري متفوق أصلا وبأضعاف مضاعفة على خصومه، بالمقاييس التقليدية للحرب. ما هي النتيجة المتوقعة لكل هذا الحشد نظريا؟ تدمير الخصم تماما، وتدمير كل حلفائه المفترضين، بل تحويل كل المنطقة، حجرا وبشرا، إلى
رماد. ماذا حصل فعليا؟ كل هذا الحشد أصبح في حالة دفاع بعد تعدد الهجمات عليه من لبنان والعراق واليمن. وفي حين يقرع الكيان طبول غزو بري لم يأت إلى الآن، فتح الأمريكيون قناة إتصال مع المقاومة من أجل إطلاق سراح مواطنيهم الأسرى لدى غزة، ومن هنا ضغطهم من أجل فتح معبر رفح وإدخال المساعدات للسكان المحاصرين. هذا اختراق كبير لم يكن يوحي به شيء مما يقع ظاهريا. تحول المقاومة انتصارها العسكري إلى نصر ديبلوماسي، وتتقن المراوحة بين كل ساحات المواجهة.
من مقاومين بلا إمكانيات غير إرادتهم وإيمانهم، يصبح قادة المقاومة رمزا لفكرة تقفز على كل الحدود. يخاطبون الشارع العربي والإسلامي والدولي، ويستجيب هذا الشارع لهم من فوق زعاماتهم الرسمية، وينشأ على وقع ذلك جيل جديد سيحضن القضية لخمسين عاما أخرى. ما أصبح يحتكم عليه هؤلاء المقاومون اليوم ليس الشعوب فقط، بل حركات المقاومة فيها، فيأتي المدد من لبنان والعراق والأردن واليمن وإيران، ومصر وكل أرجاء إمبراطورية غزة.
بهذه المقاييس، إذا لم نطلق على غزة اسم الإمبراطورية العظمى، فعلى من سنطلقه؟