عندما طلبت إحدى الإذاعات من وزير الخارجية توضيح موقف وزارته من مشروع قانون تجريم التطبيع الذي كان البرلمان قد بدأ نقاشه في جلسة عامة في اليوم نفسه، كانت حيْرة الرجل واضحة جليّة لمن يستطيع القراءة والسماع. لم يشأ نبيل عمار مصادمة النواب المتحمسين حتى يتقي هجماتهم وغضبهم، لكنه رفض إعطاء موقف صريح لصالح المشروع أو ضده، قائلا في لغة مشتقة من أجود أنواع الخشب أن "الأمر يحتاج إلى دراسة مستفيضة"، وأن الوزارة لم ترفض التعامل مع البرلمان، "فهما جزءان من الدولة"، دون ذكر قيس سعيد بتاتا. الحقيقة أن الوزارة لم تجب على مراسلات النواب بتاتا أيضا، وأن وزيرها كان على علم بالموقف الرئاسي الرافض لمشروع القانون المذكور، وأن رفضه التجاوب مع البرلمان قد تم بتعليمات وتحت غطاء الرئيس نفسه مباشرة.
رئيس البرلمان كان أقل حظا. فقد اضطر للتعامل مع هيجان النواب والجلسة العامة قد بدأت بعد. لم تُجده تقنيات الإلتفاف الكلاسيكية نفعا، فوجد نفسه مضطرا للقول على الملأ بأن الرئيس رافض لهذا القانون، وأنه تحدث معه في هذا الشأن بوضوح، وأن ذلك قد تم بحضور شاهديْن يمكن أن يؤيداه إذا ما رغب النواب. عندما استؤنفت الجلسة غادر رئيس المجلس مقعده، وفي اليوم الموالي و إلى الآن لم تُستأنف الجلسة التي يفترض أنها بقيت مفتوحة لإكمال نقاش مشروع القانون والتصويت عليه. لقد غاب رئيس المجلس دون إعلام أو إعتذار، فلم تنعقد الجلسة. هذا ما تم بكل بساطة.
الحقيقة أن كلام رئيس البرلمان كان صادما للنواب المتحمسين أولا، ثم للرأي العام. ولأن رئيس البرلمان توقع ذلك، فقد كان يخشى أن يُكذبه النواب، فاحتاط لذلك بالقول أن له شاهدان على ما قاله له الرئيس، وهما نائباه في رئاسة البرلمان. لقد نقل السيد بودربالة للنواب أيضا أن الرئيس يعتبر مشروع القانون مجرد "مزايدات انتخابية"، وهو ما كان محبطا للنواب المتحمسين للرئيس وفلسطين. ربما نسي قيس سعيد أنه كان السباق للمزايدة الإنتخابية بفلسطين، وفي سياق انتخابي بحت، عندما نطق بجملته القوية "التطبيع خيانة عظمى"، وعندما كان يدافع قبل وصوله للرئاسة عن إصدار قانون يجرم التطبيع مع الكيان الصهيوني.
في اليوم الموالي تحدث رئيس الجمهورية في خطاب خصصه لموضوع مشروع القانون، ليزيل كل الشكوك. لقد كان واضحا في رفضه للمشروع، حانقا على النواب، وموحيا أن القانون لن يصدر حتى لو نال ثقة أغلب نواب البرلمان بالتصويت. إعتبر قيس سعيد أن الأمر يتعلق بصلاحياته الدستورية المطلقة في رسم السياسة الخارجية (من المهم أن نذكر أيضا هنا أن الرئاسة لم تجب النواب على طلباتهم السابقة بالتشاور معها حول النص المذكور)، وأن هذا المشروع يشكل إعتداء موصوفا على أمن الدولة الخارجي. سيضطر قيس سعيد في كلمته "للشعب" إلى كثير من الاجتهاد والتجريد الذين لم يبق مهما شيء في أذهان الناس عندما أنهى تلك الكلمة. ما بقي في الاذهان فقط أن الرئيس رافض لهذا المشروع، وأن هناك تناقضا ضخما بين الكلام والممارسة. يوم الإثنين الذي تلى جلسة البرلمان، ستصرح نائبة كانت شديدة الحماس لمشروع القانون، أن البرلمان سيبدو في صورة المتمرد على الرئاسة إذا ما واصل مناقشة النص المطروح.
بغض النظر عن قضية الصلاحيات، وعن طريقة تصرف قيس سعيد مع البرلمان بما عرّض هذه المؤسسة التي لم ينتخبها سوى حوالي عشرة بالمائة من الناخبين إلى إهانة جديدة وصارخة. وبغض النظر عن فقدان البرلمان أول وربما آخر فرصة لجني شعبية ترفد شرعيته الضعيفة. بل وبغض النظر عن رداءة مشروع القانون والغوغائية التي سيطرت على أداء الكثير من النواب قبل الشروع في مناقشته ومنذ الدعاية له في وسائل الإعلام قبل الجلسة العامة، فإن هذه "الحادثة"قد أصابت الشعبوية التونسية السائدة اليوم في مقتل. لن يعود بوسع أنصار الرئيس بعد اليوم أن يواصلوا، وهم يمارسون رياضة المزايدة اليومية المفضلة لديهم، اتهام برلمان العشرية السوداء "بالتواطؤ مع الكيان الصهيوني" عندما لم يستطيعوا تمرير مشروع مماثل قبل عشر سنوات. لقد أصبح رئيسهم الآن هو الرافض، وعلى الملأ، للفكرة في حد ذاتها.
إن ما حصل اليوم من خسارة للجميع لا يتعلق بعدم تمرير هذا المشروع ليصبح قانونا، فهو، بالنص الذي قُدِّم به، مشروع رديء وغوغائي. كما لا يتعلق الأمر بنقد موقف الرئيس من هذا المشروع، فقد بدا أنه يتصرف بناء على استشارات عقلانية، وهي حالة نادرة في أدائه العام منذ حوالي الأربع سنوات. إن الخسارة الحقيقية أخلاقية لنا جميعا، حيث سنبدو وكأننا نزايد جميعا بفلسطين، في سياق الحرب الهمجية على غزّة. ليس هذا أبدا بالتقدير المتسرع. لقد فضحت المزايدات المتوازية والمتصاعدة أن ما كان يبحث عنه الرئيس قبل وصوله قصر قرطاج ليس إلا تسجيل نقاط سياسية ضد خصومه، مثلما تعودوا هم أيضا. أخلاقيا، ليس الرئيس مختلفا جدا في أدائه عن خصومه إذا. كذلك، فإن اعتبار النواب المفتقدين للشرعية الشعبية أن هذا المشروع يمكن أن يجعلهم أكثر مقبولية لدى الرأي العام، ليس في نهاية الأمر إلا اقتداء بالرئيس في رياضة المزايدة. ليس بالإمكان افضل مما هو كائن،هكذا هو الأمر بكل بساطة اليوم.
لقد أفسدنا بالمزايدة نقاء الموقف الشعبي المساند لفلسطين، في سياق صعب جدا، وهو حرب الإبادة التي يقع شنها اليوم ضد غزة. بطريقة أو بأخرى، وبغض النظر عن شطحات الوفد التونسي في الأمم المتحدة وتحفظه الغريب على مشروع القرار الذي يدعو لوقف إطلاق النار، فإننا نسير اليوم في طريق لا أخلاقي مفزع ومثير للإحباط. لسنا أفضل من كل الأنظمة العربية التي زايدت ولا تزال منذ عقود بفلسطين، حتى لو كان رئيسنا قد نال تصويتا ساحقا بفضل جملة قالها في لحظة حماس: "التطبيع خيانة عظمى".
لقد طبّعنا مع المزايدة، ومع قتل المواقف الصافية والصادقة، ومع استعمال فلسطين لأغراضنا السياسية الداخلية، وهذا أخطر بكثير من التطبيع مع الكيان!