أكثر من أربعين يوما مرت على غزة وهي تقصف بلا هوادة، ومن كل مكان، وتحت مرأى البشرية جمعاء. تجاوز عدد الشهداء الخمسة عشر ألف شهيد، معظمهم من المدنيين، ومعظم هؤلاء المدنيين شيوخ وأطفال. في الوقت نفسه، يجتمع مجلس العموم البريطاني ليصدر موقفا بعدم وقف إطلاق النار، ما يوحي بأن بريطانيا طرف أساسي وصاحب قرار ميداني في مواجهة الفلسطينيين. في الوقت نفسه أيضا تتوالى التصريحات الألمانية الرسمية بتشجيع جيش الكيان على مزيد القتل، وتنطلق الطائرات الأمريكية لاستطلاع الأجواء فوق غزة وحولها تمهيدا للقصف الذي لا يتوقف، وتنشئ واشنطن جسرا جويا متواصلا من أجل مد العدو الصهيوني بما يحتاج إليه من معدات وذخائر القتل. لا يمكن أن يتوقف القتل دون أن تحقق إسرائيل نصرا، وهذا النصر لم يتحقق رغم كل هذا القتل، ولو في حده الأدنى. هذا ليس فشل إسرائيل، هذه هزيمة نكراء لكل الحلف الذي تقف هي في وسطه اليوم.
ماذا تربح أوروبا اليوم مما تفعله؟ وماذا تربح أمريكا كدولة ممتدة المصالح من مواقف حكومتها تجاه الصراع ومساندتها العمياء لجرائم الإبادة الإسرائيلية ضد غزة والفلسطينيين، ومنذ حوالي الثمانين عاما؟ هذه أسئلة قل أن طرحها الرأي العام الغربي على حكوماته في السابق بالحدة التي نلحظها اليوم. في الحقيقة، فإن الغرب يدمر نفسه تدميرا لن يستطيع تجاوز انعكاساته على مدى القرون القادمة. ستنتهي حرب غزة، وستخرج المقاومة الفلسطينية منتصرة بمنع عدوها من تحقيق ولو جزء بسيط مما أعلنه من أهداف. سقطت خطة أبراهام، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، وقريبا جدا بفضل المقاومة ستسقط خطط التهجير. وعندما سيبدأ الجميع في احتساب الأرباح، سيبدأ الغرب في احتساب الخسائر.
خسائر الغرب من هذه المساندة العمياء للقتل والإبادة أكثر من مجرد عتاد يحطمه المقاومون، وأبلغ من أموال تدفع اليوم مجانا لإسرائيل، بل وأنكى من تجارة وسياحة. والسبب أنها خسائر تحطم الأسس التي قام عليها الغرب نفسه، والتي ادعى بها ريادة على البشرية جمعاء، وقال أنها تسمح له بإعطاء الدروس لكل الآخرين. ما يسقط اليوم هو المعجم الذي احتاجت أوروبا قرونا من أجل تثبيته، والمفاهيم التي بذلت جيوشها وأموالها من أجل جعلها نموذجا لما ينبغي أن تسير عليه الشعوب الأخرى.
لم يعد الغرب اليوم مثلا أعلى لأحد وقد شاهده الجميع يقتل ويدمر بمثل ما يقتل الإسرائيليون ويدمرون، بل وأكثر. لم يكن الفلسطينيون فقط هم من شاهدوه يفعل ذلك، بل كل البشرية. لقد رأيناه يشجع على اقتحام مستشفى، ويصمت على قتل المرضى والأطباء، ويمنع الماء والدواء والهواء عن الرضع، ويحطم الأجهزة الطبية والأدوية. سيصعب عليهم كثيرا مداواة هذا العار بعد اليوم.
وبالنسبة لشعوب أوروبا، لقد رأت هي أيضا كل شيء. ولكن أكثر ما رأته أن حكامها ليسوا في خدمتها ولا يرون مصالحها الآنية والمستقبلية، وإنما هم في خدمة مشروع لا تربح منه تلك الشعوب سوى الكراهية والحقد والإحتقار. هذه حكومات يفترض أنهم انتخبوها، ولكنها اليوم في خدمة منظومة صهيونية تقوم على كل ما هو بشع وقبيح. إن المظاهرات الضخمة في مدن الغرب الكبرى مساندة لغزة هي رسائل إدانة لحكومات هذا الغرب. لولا الحرب على غزة لظن الأوروبيون أن هذه حكوماتهم. غزة وحدها التي أقنعتهم، بدماء أطفالها ونسائها وشيوخها، أن العالم ليس كما يبدو لهم، وأنه قد أضحى لعبة في يد منظومة هي مزيج قاتل بين الهمجية والدموية والعنصرية والقتل والإبادة. لقد سقط النموذج الأوروبي حتى في عيون أبناء هذا النموذج وسيواصل ذلك السقوط حتما.
ما يسقط اليوم بفضل غزة هو كل النموذج الليبرالي، وكل القيم التي ارتبطت به وقام عليها. هذا النموذج الذي أعطته العولمة أجنحة إضافية، يترنح اليوم ترنحا خطيرا ولكن مخلّصا. تتخلص البشرية اليوم بفضل دماء غزة من أوهام النموذج الذي تمثله الليبرالية الغربية، وتتحرر من كل الأكاذيب التي أسستها طيلة القرون الماضية. أصبحت الليبرالية منتجة للقتل والإبادة والتوحش. أصبحت الديمقراطية بلا معنى، ومجرد ستار شفاف ترتكب وراءه أبشع الجرائم وأوضعها. أصبحت الحرية حرية قتل، وأصبح القتلة والمدافعون عنهم فقط من يحق لهم التعبير بحرية، وغدا القانون وكذلك المواطنة مجرد شاهدي زور في حفلة الهمجية المعاصرة.
من الهمجي والمتوحش اليوم؟ غزة أعادت المفردات إلى معانيها. ها هي شعوب العالم اليوم، وهي تخرج بالملايين ضد إسرائيل، تعيد تعريف الإرهاب والكفاح من أجل الحرية. "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" ديمقراطية قاتلة ومجرمة، و"جيش الدفاع" ليس إلا أكثر مشاريع الإجرام كلفة. سيؤدي ذلك حتما إلى زيادة "التطرف"، ولكنه مهما زاد، فسيكون مجرد "جولة سياحية" بالنسبة لما يشاهده العالم اليوم من تطرف في القتل والتوحش. وعندما سيبلغ العنف مداه في عقر الغرب نفسه، لن يكون بإمكان أحد أن يرفع عقيرته بالدفاع عن "القيم الليبرالية" وضد "العنصرية الدينية" ومن أجل "التعايش بين الشعوب" و"حوار الحضارات". كل هذه هرطقات كشفتها غزة، وإلى الأبد.
تخسر أوروبا اليوم كل النخب التي بنتها منذ عقود، وتحكم عليها بالصمت المخزي، وبانعدام التأثير، أي بنهاية الدور الذي ندبتها له. بطريقة ما، فإن خط الدفاع الأول عن "القيم الليبرالية"، و"الوسيط" الذي لعب باستمرار دور تهدئة التوترات، ينهار تماما، وبصورة درامية جدا. مع انهيار هذه النخب، سيجد الغرب نفسه في مواجهة شعوب كرهت كل ما يرمز إليه، ولم تعد ترى فيه إلا قاتلا مأجورا. تنهار في الوقت نفسه مصداقية "الحكومات الصديقة والحليفة"، وتزداد غربتها عن شعوبها، ويبدأ شيء ما في الإعتمال تحت السطح وفي أنفاق المجتمعات المكلومة بما يحدث في غزة. كل الباقي ليس إلا مسالة وقت. عالم متوتر يميل بلا مواربة إلى مزيد من العنف والتطرف، هذا ما تزرعه أوروبا اليوم. وهي لا تزرعه في العالم فحسب، بل داخلها أيضا. احتقان الجاليات ذات الأصول العربية والمسلمة، والممارسات العنصرية التي انفجرت ضدها بمناسبة تعاطفها مع المقاومة في فلسطين، بل وفقدانها في لمح البصر لكل الحقوق التي راكمتها طيلة عقود، بما في ذلك ما منحته لها "المواطنة"، لن يمر دون عقاب. هذا من أحكام التاريخ الأولى.
أوروبا تدمر العالم، وتذبح نفسها، فداء للإسرائيل. اليوم، ليس بوسع أحد أن يسلط ما ينبغي من عقوبات على هذا المنحى غير غزة، وها هي تفعل.