يعتبر نورمان فانكلشتاين أحد كبار منتقدي الصهيونية في الولايات المتحدة. هذا الباحث في العلوم السياسية الذي خصص جهده لتعرية الإيديولوجيا الصهيونية وتوضيح انعكاساتها على المستوى السياسي والثقافي، هو ابن والدين يهوديين مرا بتجربة المحتشدات النازية في الحرب العالمية الثانية، وقد خاض ولا يزال معارك أكاديمية ضارية دفاعا عن الحقوق الفلسطينية، ما أدى إلى محاصرته ورفض ترقيته في وظيفته كأستاذ جامعي في جامعة "دي بول" الأمريكية في 2007، وشن هجمات ضارية ضده في الأوساط الأكاديمية والسياسية. كان ذلك بعد أن خصص أطروحته لدحض كتاب كان قد حظي بدعاية وتشجيع كبيرين آنذاك، خصصته الكاتبة جوهان بيترز للتأكيد على أن العرب القاطنين فلسطين كانوا قد قدموا إليها، مثل اليهود تماما، في أواخر القرن التاسع عشر حيث جاؤوا من بلدان عربية أخرى. لقد دارت أولى معارك فانكلشتاين إذا حول إثبات عروبة فلسطين الأصلية، وتأكيد الحقيقة التاريخية التي لا يجادلها أي باحث جدي، وهي أن فلسطين كانت عربية مأهولة بالعرب منذ قديم الزمان عندما بدأ المهاجرون اليهود في القدوم إليها.
خصص نورمان فانكلشتاين كتابا للمحرقة النازية، حلل فيه مكانة هذه المحرقة في الوعي اليهودي والعالمي، مركزا في الوقت نفسه على محوريتها في منظومة الدعاية الصهيونية وكيف تحولت ذكراها إلى وسيلة ابتزاز تستفيد منها إسرائيل من أجل إخضاع العالم أخلاقيا، ومن أجل التغطية على المحارق التي تقوم بها ضد الفلسطينيين. لكن كتاب "غزة، بحث في استشهادها"، والذي حرر فصله الأخير في ربيع 2011، خصصه لحرب 2009 التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة.
إن التشابهات السياقية تجعل هذا الكتاب راهنيا اليوم في الوقت الذي لا تزال فيه إسرائيل تشن حرب 2023 على قطاع غزة حيث تظل فصول الكتاب تتناول تقريبا نفس الظواهر والتعقيدات: الذاكرة، الحقوق التاريخية، السياسة الأمريكية تجاه قضية فلسطين، الوضع في قطاع غزة، المقاومة، موقف السلطة الفلسطينية في الضفة، إلى آخر ذلك من المسائل الرئيسية. على المستوى الشكلي والمضموني في الوقت نفسه، فإن هذا الكتاب ثمرة تعاون بين فانكلشتاين واثنين من أهم المدافعين عن الحقوق الفلسطينية والمنتقدين لإسرائيل والولايات المتحدة، وهما المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، والفيلسوف الأمريكي ناعوم تشومسكي.
سمح ذلك للكتاب في الحقيقة بإحاطة مكتملة ومختصرة ومكثفة للصراع بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين، مع تركيز على أسباب العمى الدولي عن الجرائم الصهيونية التي تجري تحت أنظار العالم مند سنة 1948، وتحليل لتطور المقاومة على أرضية الظلم التاريخي الواقع على الفلسطينيين. نحصل عبر هذا الكتاب في نهاية الأمر على رؤية يقدمها ثلاثة مثقفين وأكاديميين يهود هم من أنشط الباحثين اليوم في نقد إسرائيل وبيان الحقوق الفلسطينية.
يقع الكتاب في عشرة فصول، بعضها ورقات لكل من إيلان بابي وناعوم تشومسكي، والبعض الآخر حوارات مع أحدهما أو كليهما تقوم على أسئلة طرحها عليهما نورمان فانكلشتاين. وفي حين خصص إيلان بابي ورقاته لموضوع النكبة ونتائجها والسياسة العدوانية الإسرائيلية التي انعكست إبادة وتطهيرا عرقيا للفلسطينيين على مدى عمر "دولة إسرائيل"، فإن ناعوم تشومسكي ركز على الدور الأمريكي في التغطية على هذه الإبادة وتقديم التبرير للمجازر الإسرائيلية وحماية الكيان على المستوى الدولي. تقع حرب 2009 على غزة في صلب هذا الكتاب، تلك الحرب التي استعملت فيها إسرائيل أيضا أسلحة محرمة ضد المدنيين الفلسطينيين، وحاصرت غزة بقطع الغذاء والماء والكهرباء عن السكان المدنيين، وقصفت خلالها أيضا المستشفيات والمدارس، بنفس الدعوى، أي من أجل إيقاف قصف المستوطنات وإزالة المقاومة من الوجود وتحرير الرهينة "جلعاد شاليط"/////. نعرف اليوم أنه لم يتحقق من تلك الأهداف سوى المجازر، وأن تلك المجازر قد تمت تحت نظر العالم وتشجيع القوى الكبرى التي ظلت ترفض وقف إطلاق النار، وأن أحدا من سياسيي أو عسكريي الكيان لم يحاسب، مثلما وقع بداية من 1948، على جرائمه، وأن العالم لا يزال أعمى عن كل أفعال إسرائيل مهما بلغت وحشيتها.
يركز تشومسكي منذ أول الكتاب على التعامل غير الأخلاقي للدول الكبرى، الأوروبية والأمريكية، مع ما حدث في فلسطين باستمرار. فأسر "جلعاد شاليط" مثلا كان قد تم بعد يوم واحد من اختطاف إسرائيل لعدد من الناشطين الفلسطينيين، ولكن هذه الدول لم تر ذلك، بل ولم تعلق عليه بتاتا، لتنشئ نظرية مفادها أن أسر "شاليط" كان الجريمة الأصلية التي انطلق منها كل شيء. هذه الخديعة الكبرى حاضرة باستمرار في تاريخ الكيان، وهي لفرط بساطتها تنجح دوما في إقناع الدول الكبرى التي سرعان ما تنظم للوليمة وكأنها كانت في صورة التخطيط لها منذ البداية.
أكثر من ذلك، يفضح تشومسكي مقولة الديمقراطية الغربية، حيث يبين أن الاعتداءات الكبرى على القطاع، والتصاعد في استعمال وسائل الإبادة، بل وزيادة حجم الدعم الأمريكي بالخصوص، قد تزامنت كلها مع انتصار حماس في انتخابات 2006 بعد فك ارتباط إسرائيل بالقطاع وانسحابها منه. لقد كان ذلك الانتصار تحولا مفصليا في الساحة الفلسطينية، حيث لم تكن الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل مستعدة لرؤية فتح تخسر على الميدان إزاء حماس، بعد أن وقع القيام بكل شيء من أجل جعلها، عبر منظمة التحرير، الطرف المقابل الذي يمسك بالقرار الفلسطيني ويمثل، بمفرده وإلى الأبد ودون مراعاة أي اعتبارات أخرى، الفلسطينيين. لقد كان الأمر متعلقا برؤية استثمار يتهاوى، وتحولات غير مرغوبة في خارطة الصراع انطلقت منذ هزيمة "جيش الدفاع" أمام المقاومة الإسلامية في لبنان في جوان 2006.
الكتاب في معظمه مخصص لإسرائيل والولايات المتحدة، بما يعني أن الأكاديميين الثلاثة يعتبرون أن الأمر متعلق بجبهة واحدة تقود الصراع، مباشرة وبكل الأسلحة السياسية والعسكرية، ضد الفلسطينيين. لكن إيلان بابي في الفصل الذي خصصه لتحليل مسار السياسة الأمريكية تجاه العرب وإسرائيل منذ سنة 1948، يقول شيئا هاما: المساندة المطلقة الحالية للكيان الصهيوني في الولايات المتحدة تطورت ببطء وبسبب عوامل تاريخية معقدة، ولم تصبح أمرا واقعا ونهائيا وتاما إلا في أواخر ستينات القرن الماضي. قبل 1969، كانت الأوساط الرسمية الأمريكية تنظر بموضوعية أكبر للصراع العربي الإسرائيلي، وقد وضعها ذلك في توترات مع السياسيين الإسرائيليين.
حصل ذلك عبر مسارين: مسار تأثير اللوبي الصهيوني الذي تمثله اليوم منظمة "أيباك" التي تستفيد من ترسانة معقدة وفعالة من أدوات التأثير، وعبر دور الصهيونية المسيحية التي نجحت في تثبيت وسائل دعاية وتأثير بالغي القوة على الرأي العام، وهو المسار الثاني الذي أطلقه المبشرون الطهوريون منذ نهاية القرن التاسع عشر: "والنتيجة أن عشرات الملايين (ربما نحو أربعين مليونا) من الأمريكيين يساندون اليوم إسرائيل من دون تحفظ، ويتوقعون منها مواصلة سياستها المتطرفة ضد العالم العربي والفلسطينيين. وتأتي هده المجموعة من الناس بالمال الذي ساعد في وصول جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض، ويتمثل أعضاؤها في كل اللجان المهمة في تلة الكابيتول وفي وسائل الإعلام الأمريكية. ومنذ اندلاع الانتفاضة الثانية ومعظم الكنائس التي تتبع هذا المعتقد تعتبر التطوع في إسرائيل إلزاميا".
يحلل بابي نشأة فكرة التهجير (الترانسفير)، ويرى أنها مرتبطة بالإيديولوجيا الصهيونية منذ اليوم الأول لنشأتها. لقد تحدث هرتزل نفسه عن ذلك ("بعد احتلال الأرض ومصادرة الملكيات الخاصة علينا أن نسعى لطرد السكان الفقراء عبر الحدود من دون أن يلاحظ أحد ذلك، ونوفر لهم في دول العبور التوظيف الذي نمنعه عليهم في دولتنا. يجب تنفيذ كل من عملية المصادرة واجتثاث الفقراء سرا وباحتراس"، هرتزل، 1895)، وطبق الأمر باستمرار منذ 1948. لذلك فإن ما يبدو اليوم أخبارا عن خطط ما للمستقبل، كان في الأصل ركنا رئيسيا من أركان ماضي إسرائيل تواصل تقديمه في كل مرة بنفس الطريقة. إن التهجير جزء أساسي من إرادة التطهير العرقي وسياساته بالنسبة لإسرائيل، لذلك لا يمكن النظر إلى إسرائيل كمشروع سياسي قومي، دون هذا المكون التأسيسي. إسرائيل تعني إبادة الفلسطينيين، وحقها في الوجود يعني ببساطة حقها في التطهير العرقي.
يواصل إيلان بابي بالغوص في عمق تاريخ الإبادة الذي خصص له أكبر جزء من مجهوده البحثي، وهو تاريخ التطهير العرقي في فلسطين، انطلاقا من سنة 1948، بما يجعله أحد أهم مؤرخي النكبة والتطهير العرقي الصهيوني من منطلق موضوعي ينقد بعمق الروايات الإسرائيلية المنحازة إلى إيديولوجيا القتل المنهجي، وأحد رواد تيار التاريخ الجديد الذين يناضلون بإصرار من أجل الإعتراف بالمحرقة الصهيونية ضد الفلسطينيين ومنع أن تنسى وتفلت إسرائيل كدولة من المسؤولية عنها.
أما تشومسكي، فقد تناول في الفصل الرابع من الكتاب والذي عنوانه "أبيدوا جميع البهائم"، قضايا لا تزال راهنية تتعلق بتحليل تعقيدات الصراع على المستوى الإقليمي، والتي تجعل من غزة اليوم عقدة التوتر الإقليمي الأكثر وضوحا. يبين تشومسكي دور اكتشاف حقول الغاز على سواحل غزة سنة 2000 في السياسة الإسرائيلية ضد القطاع، وكيف أصبحت محاصرته وإغلاقه وتحويله إلى محتشد كبير، جزءا رئيسيا من المصلحة الاقتصادية الإسرائيلية. لم يكن أحد قد بدأ بعد الحديث عن الطريق التجاري الجديد الذي ينطلق من الهند إلى ميناء حيفا وعبره إلى المتوسط وأوروبا، ولم تكن حرب أوكرانيا قد بدأت آنذاك بعد، ولم يكن "نورد ستريم" قد وقع تفجيره بعد، لكن أصبح واضحا أن مشكلة كبيرة كانت قد بدأت في الظهور، وأنها ستعطي إسرائيل أسبابا جديدة لقمع سكان القطاع وإبادتهم وتطهيرهم مثلما تفعل منذ أكتوبر 2023.
هل يمكن توقع تغييرات دراماتيكية في سلوك الكيان الصهيوني في حضور إيديولوجيا التطهير العرقي الأصلية، وفي حضور المصالح الإستراتيجية، وتحت ظل الحماية الأمريكية والأوروبية؟ لا شيء بإمكانه تغيير أي شيء في هذه الصورة عدا المقاومة، وهو ما يفعله الفلسطينيون بالذات اليوم وبشكل أكيد منذ التحول الكبير الذي حصل في جنوب لبنان في بداية صائفة 2006. هذا الكتاب اعتراف بحق الفلسطينيين في المقاومة، وتركيز على أنها رد فعل طبيعي لشعب انتهكت أسس حياته، ودمر اقتصاده وسكانه، ويخطط لإبادته أو تهجيره كليا.
عندما يعود حل الدولتين للتداول اليوم، بعد الفشل الإسرائيلي الذريع أمام المقاومة في غزة رغم خمسين يوما من الحرب الوحشية الشاملة، فإن ذلك أيضا يتم للمرة الألف: كان هناك حديث مماثل في كل مأزق تمر به إسرائيل، لكن "حل الدولتين" كان أيضا منذ 1948 خطة دعاية هدفها خداع الفلسطينيين. لقد الأمر كذلك باستمرار: استراحة ديبلوماسية تتم، هي أيضا، تحت غطاء أمريكي وأوروبي، تخرج الكيان من المأزق قبل بداية جولة أخرى من الإبادة ضد الفلسطينيين. إن "حل الدولتين" ليس إلا استمرارا وليمة الدماء، ولكن بمفردات ديبلوماسية: التطهير العرقي وإنهاء قضية فلسطين ومطالب أهلها المشروعة وحقوقهم التاريخية في وطنهم.