هنا لندن، وتدق بغ بن لتعلن ما تعلن، لندن صوت المذيع الأثير لدى خاصة ذاك الزمان وقول على قول للكرمي، والدي الذكي لم يكن يصدق إلا أخبار لندن، لماذا؟ لا أدري، والدي البعثي لم يكن يستمع إلى نشرة أخبار إذاعته من دمشق، ومع ذلك ظل بعثياً حتى مات، لا أعرف لماذا ظل والدي بعثيًّا وهو يعرف بأن إذاعته كذّابة! ولماذا يصدق إذاعة أهدت دولتها فلسطين إلى الصهيونية.
والدي اللاجئ بسبب لندن إذاعته المفضلة هي لندن، أمي التي تكره لندن وتعتبر لندن سبب مأساتها، مأساة خروجها من يافا، تذكر بحب مدرساتها الإنكليزيات ومدرسيها الإنكليز في دار معلمات القدس، أمي تقول لابنها بأن دراسته يجب أن تكون في كامبريدج.
إنها تكرر على مسامعه ذلك دائماً، والدتي التي تدعو الله كل يوم أن يخسف بريطانيا ومن عليها، بريطانيا المجرمة بحق الفلسطيني، تريد لابنها أن يكمل دراسته في كامبريدج، مع أنه إذا استجاب الله لدعائها فلن تبقى كامبريدج وستضيع الفرصة على ابنها.
الفلسطيني لم يغفر لبريطانيا دورها الرئيس في صناعة مأساته المستمرة حتى هذا التاريخ ومع ذلك يراها بعين أخرى تنطوي على تقدير لثقافتها ولغتها.
وانفصال الوعي بين الثقافي والسياسي عند الكثيرين من العرب تجاه الغرب عموماً وتجاه فرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص يشير إلى وعي مطابق لحال الغرب؛ حال التناقض بين سياسة استعمارية – إمبريالية بأشكال مختلفة وحالة ثقافية مبدعة.
هذا الوعي المنقسم غالباً لا يزول انقسامه إلا عند جزء كبير من جيل من المهاجرين الذين ولدوا في الغرب، والجزء الضئيل الذي يحتفظ بهذا الانقسام في الوعي يكون بسبب تجربة حياة قاسية قادته إلى العيش في وعي زائف مصدره الأيديولوجيا الخلاصية العنفية، والحق أنه من الصعب أن تكون مسلماً سياسيًّا وتكون في الوقت نفسه عائشاً في الغرب.
بل من السهل جداً أن تكون مسلماً ومؤمنا وأن تعيش في دولة ديمقراطية علمانية مؤسسة على فكرة حرية الفرد الملتزم بالقانون الحامي لحريته.
ومع ذلك فأن تعيش وفي عقلك ثقافتان مختلفتان، ستجد نفسك في محاولة دائمة للتلاؤم مع هاتين الثقافتين، وقد لا تجد نفسك خارجاً من هذا الانقسام، وآية ذلك أن الوعي الثقافي معاند وذو جذور عميقة في النفس، وبخاصة في عالمها اللاشعوري وعالم ما قبل الشعور.
طبعاً، نحن هنا لا نتحدث عن تشابه بين الأفراد في هذا الشأن، ولا عن درجات واحدة من الانقسام الثقافي، إذ أن مستوى التعليم ودرجة الانغماس في الحياة الأوروبية، ودرجة امتلاك اللغة، وقطع أواصر الصِّلة مع المجتمع الأم، كلها عوامل تحدد درجة انقسام الوعي لدى العربي العائش في الغرب.
بقي أن نقول: إنه رغم مسؤولية الغرب عن الكثير من مآسي الشرق العربي وبخاصة دوره في التجزئة السياسية لبلاد الشام والعراق، وزرع إسرائيل في قلب العرب فإن جاذبية الغرب بالنسبة إلى العربي لن تنقطع أبداً.
وهذه الجاذبية ناتجة عن نمط الحياة والثقافة التي يجد الفرد فيها مكانته، رغم النقد الذي يوجهه الغربي إلى ثقافته نفسها.
والحق أن الدكتاتوريات، بشكل عام، هي أنظمة طاردة للسكان، فإذا أضفت إلى الدكتاتوريات حال الفقر فإنك تفهم وتتفهم نزعة الهروب إلى الغرب وتفهم أيضاً انشطار الوعي الذي يخلق نمطاً خاصاً من الاغتراب.