عندما انطلقت فعاليات كأسي إفريقيا وآسيا للأمم في كرة القدم،كانت الحرب على غزة قد تجاوزت شهرها الثالث، لكنهما مع ذلك افتكتا الإهتمام بما يحدث هناك من مجازر ومآس إلى الحد الذي بدتا فيه لمعظم الجماهير المعنية مبدئيا بقضية فلسطين، أمرا ثانويا. لا يستطيع الإنسان بذل عاطفتين في الوقت ذاته بنفس القوة، هذا أمر طبيعي بالنسبة لكائن كالإنسان، لكن أن تذهب الجوارح لكرة القدم عوضا عن فلسطين، فإن الأمر يستحق بعض التفكير.
هناك حالة إرهاق مضاعفة لدى الجمهور من قضية فلسطين، فهذه القضية التي اندلعت منذ أكثر من مائة عام، قد أنهكت العاطفة العامة للناس، وهذا الإنهاك هو الذي حول الإهتمام بها إلى نوع من الواجب المفروض على الوعي الجمعي لا يعبر عن نفسه إلا عندما تأخذ الأمور منحى استثنائيا، بسبب مجزرة ضخمة على سبيل المثال. المشكل أن مثل هذه المجازر الضخمة يقع كل يوم منذ أربعة أشهر، وأن الفلسطينيين لا يعيشون تحت القصف اليومي المتوحش فقط، بل أيضا تحت المجاعة. لكن هذا الإنهاك يحمل في الوقت نفسه طعم الشعور بالعجز وبالذنب عن هذا العجز، ما يجعل الإعراض عن فلسطين سلوكا نفسيا لا واعيا في حالات كثيرة. هناك تعاطف أكيد، لكن هذا التعاطف لا يصل إلا نادرا لدرجة الإلتزام.
في الجهة الأخرى حيث يعيش أكثر من مليوني فلسطيني تحت أعمال الإبادة، خفتت الإنتظارات أصلا، ولم يعد اللوم على "الجماهير العربية" بمثل ما كان عليه قبل ثلاثة أشهر، وهذا أيضا تعبير عن يأس واستيعاب كلي للخذلان الذي واجهت به تلك الجماهير قضيتهم. أذكر شهادة لأحد قادة منظمة التحرير الفلسطينية تحدث فيها عن حرب بيروت في صائفة 1982، والحصار الذي فرضه الجيش الصهيوني على العاصمة اللبنانية والذي استمر أشهرا حتى ظهرت فيها بوادر المجاعة. لقد قال الرجل أن حالة من الفرح عمت المقاومين المحاصرين عندما علموا بقيام مظاهرة ضخمة في الجزائر، لكنه أسقط في أيديهم سريعا عندما اكتشفوا أنها كانت مظاهرة فرح بإنجازات المنتخب الجزائري لكرة القدم في كأس العالم في دورتها آنذاك. لم تتغير الأمور كثيرا منذ ذلك الوقت، ولا مبرر أصلا لكي تتغير. لقد استوعب الجميع أن هذا السلوك طبيعي، فساروا فيه.
في المقابل، فإن كرة القدم لعبة جميلة. وهي قادرة على شغل الناس حتى عندما لا يتعلق الأمر بالمنتخب الوطني. تنشأ حول الفرق المحلية الأبرز حالة من الحماس التي يمكن أن تتحول إلى مواجهات بين أبناء المدينة الواحدة، بل أن يسقط في هذه المناوشات جرحى وقتلى من ضمن الجماهير، وهذا ليس إلا دليلا على قوة العاطفة التي وقعت تربيتها لدى الجمهور إلى الحد الذي أصبحت معه هذه اللعبة تستحق حماسه الذي قد تبذل من أجله الدماء.
الأمر مختلف بالنسبة للمنتخب الوطني، فهذا المنتخب هو "حامل انتظارات الشعب" في تلك الحروب الصغيرة التي تخاض بالأرجل مع منتخبات وطنية أخرى تحمل هي أيضا انتظارات شعوبها. هناك عملية مسرحة للعبة، وهي عملية واعية اشتغل عليها بقوة منذ عقود من أجل ما نراه اليوم من ثمار. تنفق الدول الكثير من الأموال على هذه المنتخبات، ويتحول أهم اللاعبين إلى نوع من الأبطال الوطنيين الذين تتزاحم عليهم شركات الإشهار فيصبحون رموزا وطنية لا يجرؤ أحد على انتقادها. عندما لا ينجح منتخب وطني في تحقيق "انتظارات الشعب" ينشأ جهد متناسق وتلقائي لدى الجمهور لصب كل الغضب عليه، فيتهم الجميع بخيانة الوطن ويسقط الناس في حالة من الإحباط، فيقع تغيير المدرب، ويعاد ترميم "انتظارات الشعب" بسرعة حتى لا يتحول الغضب إلى يأس. هذا هو السيناريو التقليدي المتبع دائما، والذي ينجح باستمرار في الحفاظ على الجمهور في المدرجات وأمام أجهزة التلفزيون.
المنتخب الوطني مسألة أمن قومي بالنسبة للدول المتخلفة. إن هزيمة المنتخب المصري المذلة في كأس إفريقيا، واضطراره للمغادرة السريعة لفعاليات المسابقة، قد أعاد التركيز على معبر رفح والإفلاس الاقتصادي الذي تعيشه للبلاد، وعملية بيع أصول الدولة المصرية. لو استطاع المنتخب أن يمضي بعيدا في هذه الدورة، لكان الأمر مختلفا، أو أقل سوءا. في تونس، كانت الحكومات تنتظر باستمرار نتائج مباراة ما في دورة ما، من أجل زيادة أسعار المواد الأساسية، وعادة ما تطيح النتائج الضعيفة للمنتخب بالتوازنات المالية للدولة أو تسبب لها صعوبات. لا يمكن زيادة الأسعار والجمهور محبط من أداء منتخبه، أما إذا كان منتشيا، فالأمر مختلف.
في بلد آخر كالمغرب، عندما يصرح مدرب المنتخب في كأس إفريقيا بأن فريقه لا يحمل سوى انتظارات شعبه المغربي وليس انتظارات "العرب"، فإنه واع جدا بما يقول. لا حاجة أصلا للعرب وانتظاراتهم عندما يكون الهدف تمتين العاطفة حول المنتخب من شعب يكاد عدد البربر يوازي فيه عدد العرب. هذه أيضا مسألة أمن قومي. في حالات أخرى، يتحول المنتخب إلى أداة فعالة للسياسة الخارجية. في الجزائر والمغرب، تنشط أجهزة الدولة السرية والعلنية من أجل إثارة أحاسيس الشماتة لدى الجمهور إزاء منتخب الدولة الأخرى عندما ينهزم في دورة أو ينسحب منها، حتى لو لم يتواجه المنتخبان مباشرة. هناك حاجة مستمرة لإعطاء الخلاف بين البلدين زخما شعبيا واسعا، وهو أمر تؤديه بنجاح كرة القدم.
المسألة أعقد بكثير من مجرد كرة قدم. هناك دول ضعيفة الشرعية التاريخية، كانت في الأصل ضمن كيانات أكبر تسمى أحيانا أمة عربية أو خلافة إسلامية. بالنسبة للنخب التي تتحكم في مصير هذه الدول بل والتي قامت أصلا باختراعها، فإن إضعاف الرابطة فوق الوطنية، مثل الرابطة القومية أو العرقية أو الإسلامية، يتحول إلى خطة واعية تشكل أساس الشرعية المستحدثة. يلتقي الناس داخل حدود الأمم الصغيرة حول الراية الوطنية، والنشيد الوطني، والمنتخب الوطني، مثلما يلتقون حول الجيش الوطني أو حول الفولكلور الوطني. يعني ذلك ببساطة أن النخب التي بنت دولة الإستقلال هي نخب إنعزالية بالمصلحة والبرنامج، وأن كرة القدم، مثل أي ميدان آخر "للسيادة الوطنية" هي مجرد أداة لترسيخ التفاف الجمهور حول مشروع سياسي جامع، في الحدود المتفق عليها لتلك الدولة. هذا ما يجعل المسألة متعلقة "بالأمن القومي" للدولة المعنية، وذلك ما يبرر أنه وقع التعامل معها بكثير من الحساسية، وأنها كانت باستمرار مقياسا للمزاج العام الذي يحدد جزءا من السياسات العامة للدولة.
يقتل ذلك بالتأكيد العاطفة القومية، حيث يعيد توجيهها بشكل واع نحو ما يفترض أنها قضايا أكبر، مثل الحرب على غزة والتضامن مع فلسطين. لقد وقعت إعادة برمجة الجمهور بنجاح، إلى الحد الذي أصبح أمرا عاديا أن تتلقى الإتهامات بالخيانة الوطنية لمجرد أنك لا تهتم بكرة القدم والمنتخب الوطني، أو أن تتعاطف مع منتخب بسبب مواقف بلاده السياسية المساندة لفلسطين عندما تضعه ظروف ما في مواجهة منتخب بلادك. عبارة "منتخب بلادك" غير محايدة أصلا، فهي جزء من البرمجة البلاغية للدعاية التي تطلقها النخب، ثم تتشربها الجماهير وتعيد إنتاجها كعقيدة صميمة لا تقبل الجدل. إن إعادة توجيه الحماس هو إعادة توجيه للفعل والأمر ليس مجرد لعبة جميلة.
هناك قضايا تركل تماما في هذه اللعبة، وليس مجرد كرة. وهناك نخب تسجل الأهداف تحت تصفيق الجمهور الصاخب، تسجلها ضد هذا الجمهور بالذات فتزيد من تحكمها فيه وتوجه غرائزه بما يخدم استمرار سيطرتها. هذا أهم ما في "اللعبة"، وهذا ما يجعل منتخب فلسطين خاسرا فيها باستمرار !