مع اقتراب الحرب الهمجية الصهيونية على قطاع غزة من نهاية شهرها الخامس، يبدو أن خطة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء بالتعاون مع المصريين، أو توفير الظروف من أجل أن تبدو مصر مجبرة على قبول التعاون مع "المجتمع الدولي" لتنفيذ الخطة، تسير قدما. في انتظار ذلك، يتم تدمير كل مقومات الحياة في غزة وإحداث المجاعة بما يقرب إسرائيل من تنفيذ خططها بعيدة المدى لإفراغ القطاع من سكانه. يقتضي المشروع الصهيوني أن يتوقف القطاع تماما عن توفير أي شروط للحياة والنجاة، ما سيجعل التدخل "الدولي" موجها نحو "الإنقاذ" عبر التهجير الذي سيصبح بذلك الحل الوحيد الممكن أمام "العالم الحر".
تتلقى مصر اليوم كل الضغط الإسرائيلي والأمريكي من أجل القبول ولو "بتوطين وقتي" لسكان غزة في سيناء، ويأخذ ذلك شكل حرب إقتصادية ضروس تضاف إلى العبث الداخلي بمقدرات الشعب المصري لتنتج أزمة خانقة ظهرت في أزمة الجنيه المتهاوي منذ بضعة أسابيع. تدفع هذه الضغوط إلى إحداث وضعية لا يصبح بمقتضاها بيد المصريين سوى القبول بنتيجة من إثنتين: إما انتفاضة اجتماعية قد تقلب الوضع تماما خارج سيطرة نظام حكم السيسي مع وصول المصريين إلى أقصى قدرات التحمل، أو القبول بمساعدات تعين الحكم على تجاوز الأزمة بضخ الدولار ما يؤدي إلى استقرار في الأوضاع بل وربما تحسينها، ولكن في مقابل الموافقة على توطين الفلسطينيين الهاربين من غزة. كان واضحا أن تصريح رئيسة صندوق النقد الدولي بضعة أيام من أن الصندوق مستعد لتوفير ما تحتاجه مصر من أموال من أجل تلافي الصعوبات التي قد تنشأ عن استقباله للفلسطينيين هو جزء من الخطة، ومؤشرا على أنها تمضي نظريا في الطريق المرسوم لها.
يتم التقدم في هذه الخطة عبر طريق آخر أيضا وتحت غطاء الأزمة المالية غير المسبوقة التي تمر بها البلاد. لا يتعلق الأمر فقط ببيع أصول الدولة المصرية، بل ببيعها للإماراتيين بالذات. لا أحد يعلم تفاصيل عقود بيع "رأس الحكمة" مثلا، وإن كان بإمكان الإماراتيين بيعها لغيرهم لاحقا، لإسرائيليين مثلا، أو حتى إن كان الإماراتيون يشتغلون فعلا لحسابهم الخاص، أو إن كان الأمر "كرما إعتياديا" من أجل تحقيق "السلام الدائم". لقد بينت العشرية الأخيرة أن طموحات الإماراتيين للعب دور استراتيجي في المنطقة لا يضاهيها نسقا سوى حرصهم على خدمة إسرائيل وخططها في المنطقة. في كل الحالات فإن الضغط المالي الإماراتي خصوصه والخليجي عموما يبدو المسلك الأكثر سلامة ويسرا من أجل تحقيق الهدف النهائي، بأقل تعقيدات ممكنة بالنسبة لنظام الحكم في مصر وبالنسبة لإسرائيل في الوقت نفسه. لقد أصبح الذئب داخل البيت فعلا، ومنذ سنين عديدة.
لم يعد بإمكان أحد أن يشك اليوم في أهمية الدور الذي لعبه السيسي في حصار القطاع منذ بداية الحرب الحالية. إن ما بدا سلوكا غامضا في الأيام الأولى من إغلاق المعبر قد تحول اليوم إلى سياسة رسمية: تسهيل هزيمة المقاومة عسكريا عبر خنقها وتجويع سكانها وحرمانهم من المؤن والعلاج. لم تقف خسة النظام المصري على ذلك، بل إن أجهزته أفسحت المجال لنشاط يستفيد من مآسي الفلسطينيين عبر توظيف بعض العصابات على الحدود مع القطاع رسوما بآلاف الدولارات على دخول الفلسطينيين لمصر للعلاج، عندما لا يكون هناك إعتراض إسرائيلي على أسمائهم. يمكن ذلك نظام السيسي من منح الميليشيات التي استند على خدماتها في سيناء من مداخيل مجزية لا تكلفه شيئا، ويجعلها بذلك شريكة في حصار الفلسطينيين من منطلق المصلحة المباشرة. لقد أصبح يستفيد من التهريب، بل ويشرف عليه.
يعول النظام المصري على إثارة انتفاضة للغزاويين ضد المقاومة، ويجتهد في نزع أي شرعية عنها، وهو أمر زاد في التأكيد عليه وزير خارجيته منذ أيام قليلة عندما اعتبر، في مناسبة دولية، أن "حركة حماس خارج الإجماع الفلسطيني". بالنسبة للمصريين، لا يمكن أبدا الإحتجاج بأن حماس قد انتصرت في انتخابات وقعت مراقبتها، وأن سلطة محمود عباس قد انقلبت عليها، وأن العالم الديمقراطي قد انقلب هو أيضا على تلك الانتخابات وساند إسرائيل في اجتياحه للقطاع عقب تلك الانتخابات. هذا أمر لا يمكن قوله للمصريين أبدا. في المقابل تسعى مصر إلى الضغط على وفد حماس المفاوض، ولم تنفك تستعمل اجتياح جنوب القطاع كتهديد من أجل الحصول على مكاسب تستطيع بيعها للإسرائيليين، ومن ورائهم الغربيين إجمالا. بعبارة أخرى فإن مصر تلعب اليوم دورا أخطر وأبعد مدى من ذلك الذي تلعبه إسرائيل نفسها: إغلاق معبر رفح ولكن الإيحاء بأنها ستفتحه بعد "اتفاق"، وهذا الاتفاق لا يمكن أن يكون ضد رغبة إسرائيل. يغلق المعبر للمزيد من إضعاف المقاومة وتسهيل إنجاز المهمة الإسرائيلية، ما يعني بأن المعبر قد غدا جزءا أساسيا في خطة إسرائيل للقضاء على المقاومة. أما فتحه فسيكون من أجل الإجهاز على القضية الفلسطينية تماما عبر تهجير السكان وقبض ما يكفي من الأموال من أجل حصارهم مجددا في سيناء وتغطية نفقات إدارة شؤونهم، وفك الأزمة المالية المصرية. هذا هو الدور الحقيقي لمصر اليوم.
من المفيد أن نستخلص اليوم بأن سيناء تمثل العنصر الثابت الوحيد في خطط تهجير سكان القطاع. وبالرغم من أن هناك أفكارا أخرى وضعت على الطاولة من حين لآخر، فإن ميزة مشروع سيناء أنه الأكثر استجابة للحاجات التكتيكية والإستراتيجية لإسرائيل. منطقيا، لن يجد "العالم الحر" غضاضة في القبول بأن يتم التهجير ، عند الضرورة، إلى سيناء، فهي أقرب مكان يمكن للفلسطينيين أن يذهبوا إليه للنجاة بأنفسهم. ومثلما أن تهجير سكان الضفة في الحروب السابقة قد تم نحو الأردن، فإن أحكام الجغرافيا ستجعل الغزاويين يذهبون هذه المرة إلى مصر. سيعتبر ذلك إنقاذا لهم لأن كل المبررات لعدم الضغط على إسرائيل من أجل إيقاف حربها أصبحت معلومة ونافذة فعلا. إن مشروع سيناء قديم جدا، وقد سعى بن غوريون نفسه إلى انتهاز كل الفرص من أجل تنفيذه منذ عام 1949. بعبارة أخرى فإن الخطة الإستراتيجية جاهزة منذ أكثر من سبعين عاما، ولكن تحويرات بسيطة لم تنفك منذ ذلك الوقت تدخل عليها من أجل الإستفادة القصوى الممكنة من الظروف المتطورة في المنطقة. يعلم الإسرائيليون اليوم أن السيسي هو فرصتهم الكبرى، وأن الخليجيين سيدفعون التكلفة كاملة. لا أحد يفوت فرصة مثل هذه أبدا.
في الوقت نفسه ينظر المصريون للحرب في البحر الأحمر وكأنها فرصة إضافية لهم ليقولوا للغربيين بأنهم يدفعون من أجل إسرائيل أثمانا باهضة، وبأن من حقهم أن يتلقوا التعويضات المناسبة. بحسب التصريحات الرسمية المصرية تناقصت مداخيل قناة السويس إلى النصف منذ بداية الهجمات اليمنية على السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى موانئ إسرائيل، ثم السفن الأمريكية والبريطانية في مضيق باب المندب. لكن ذلك يمنعهم لحد الآن من التصريح بأن الحرب الإسرائيلية على غزة هي السبب في هذه الهجمات. في المقابل، وفي حين يركز الرأي العام العربي على خط النقل البري الذي فتحته الإمارات نحو إسرائيل، والذي يمر عبر السعودية والأردن ويمد الإسرائيليين بحاجياتهم الغذائية العاجلة، فإن السفن التي تمر من باب المندب إلى مصر ليتم تفريغها وإعادة شحنها في سفن مصرية أو إسرائيلية لإيلات وحيفا، لا تثير إنتباها كبيرا لحد الآن.
يقع الإمساك بمصر تماما من رقبتها التي تمسك برأسها أن تتهاوى، والمصريون أكثر من يعرف ذلك. بل إن للمصريين من الأوراق ما يجعل هذه الرأس قابلة للبقاء. أول هذه الأوراق هي سيناء بالذات، وهي لا تقدر بالنسبة للإسرائيليين بثمن: صحراء قاحلة يمكن مراقبة الحركة فيها بسهولة، وأرض يعرفها الإسرائيليون جيدا، معزولة عن الثقل الديمغرافي المصري خارج شبه الجزيرة، وتمسك بها الميليشيات المتعاونة مع النظام ومع إسرائيل.
يفترض ذلك طبعا أن تنهزم المقاومة التي تخوض أكثر حروبها ضراوة منذ خمسة أشهر في المفاوضات الصعبة التي لا تواجه فيها إسرائيل فقط وإنما ثلاثة أرباع العالم. لكن المقاومة لن تهزم. تقف المقاومة اليوم لوحدها ضد المصير الذي يعد لا لغزة فحسب ولكن للعالم كله، مصير تتحكم فيه إسرائيل بكل شيء، وتسيطر فيه فعلا من المتوسط إلى العراق، بما في ذلك مصر نفسها. صمود المقاومة هو القادر فقط أن يجعل النظام المصري يدفع الثمن الأكثر منطقيا وعدلا: أن ينهار لأنه عاجز عن دفع ثمن رأسه بأرواح أهل غزة وبمصير فلسطين.