الابادة التي تتعرض لها غزة محنة للإنسانية وامتحان للعرب. اقصد بالعرب الناس العاديون الذين لا يرتبطون بشبكة مصالح تشدهم الي السَلط العربية. من يملك من هؤلاء حسَا سليما ومقدارا من الشجاعة سيُراجع الكثير من الآراء التي كانت شائعة، واخذناها لعقود على انها حقائق.
لماذا الدولة الوطنية؟
اذا لم يساهم كل الدم الفلسطيني في دفع العرب الي وضع ما يُسمى الدولة الوطنية موضع اتهام وتحميلها خطيئة وعار التحالف مع الصهاينة في عملية الابادة، فان ذلك خسارة فادحة لا تقل فداحة عن الابادة ذاتها. احد الدروس القاسية والمرة لهده الابادة هي ان شكل الدولة القائمة الان لا يستطيع القائمون عليه الا ان يكونوا اعداء للامة والشعب العربي. لنتذكر ايلول الاسود، وصبرا وشاتيلا، والحرب الاهلية بلبنان التي ساهمت كل الدول العربية فيها، والتحالف ضد العراق الذي شاركت فيه اغلب الدول العربية بما فيها سوريا، والتحالف ضد اليمن. هده الدولة خطر على الوجود العربي، وحليف للصهاينة لان دلك فقط ما يسمح للطُغم الحاكمة بالاستمرار.
يأخذ البعض معنى الدولة الوطنية على انها تعني الدولة القائمة الان في الواقع.في الحقيقة هدا المعنى كرسته الدولة القائمة فعلا ولا علاقة له بمفهوم الدولة الوطنية كما ظهر في القرن التاسع عشر في اوروبا، وكما نظُر اليه ايضا المصلحون العرب مثل الطهطاوي وخير الدين. في الحقيقة، هي ليست دُول وليست وطنية، وانما شكل مُتخلَف من اشكال الحكم عرفته الانسانية قبل ميلاد الدولة بمعناها الحديث: نتجت الدولة/ الامة عن تراكم طويل وقاس للصراع بين الحكام والمحكومين، ادَى الي ظهور فكرة التعاقد كأساس لشرعية الحكم، وهنا نلمس العلاقة التلازمية بين الدولة والمواطنة.
فاذا كان للدولة حق ممارسة السيادة فان حدود الاخيرة هي احترام المواطنة، وهدا جوهر التعاقد بين الدولة والافراد. ان غياب المواطنة يعني بالضرورة غياب الدولة، اللهم ادا كنا نُطلق لفظ الدولة بطريقة مجازية ليغطَي كل اشكال الحكم رغم التناقض الصارخ بين الدولة العربية ودولة المواطنة، من حيث الاساس، والاسلوب والغاية.
ان دُويلات العرب القائمة في الواقع هي اشكال بدائية من الحكم، اساسها الغلبة والقوة، واسلوبها القهر الخارج عن القانون، وغايتها المحافظة على المُلك لا غير. فهل هي وطنية؟
هنا، ستتضح خطورة التلاعب بالمفاهيم. في كتابه الاصلاحية العربية والدولة الوطنية، يعود بنا علي اومليل، الي بداية ظهور مفهوم الدولة الوطنية في الفضاء العربي: في اجابتهم عن سؤال لماذا تأخرنا ولماذا تقدم الغرب؟ قال مفكرو الاصلاح لافتقادنا الدولة الوطنية، وقصدوا بها الدولة القائمة على الدستور ومجلس النواب وسلطة القانون والحريات العامة، أي ما اسموه بالتنظيمات.
لقد تم الانزياح من دولة المواطنة الي الدولة الوطنية، هكذا وقع طمر اساس شرعية وشرط وجود الدولة الحديثة: لم تعد الحريات وسيادة القانون ووجود مؤسسات كشرط لقيام الدولة، ولم تعد المواطنة كحد لممارسة الحاكم للسيادة، ولم يعد حق الافراد كأساس لشرعية الدولة، وانما اصبح يكفي ان ترث طُغمة قطعة ارض عن الاستعمار تُسميها وطن تمارس عليه سيادتها حتى تكون دولة وطنية.
ذلك هو ثمن الانزلاق من المواطنة الي الوطن. في الواقع، ترجمة citoyenneté بالمواطنة ليس اقل خطورة من ترجمة دولة الحق بالدولة الوطنية.نستطيع ان نعكس الرؤية حتى تتضح الخطورة اكثر: ما يقابل المواطن هو العبد الخاضع، من موته وحياته في يد السلطان، وما يقابل الوطني هو الخائن، الدي يعمل ضد وطنه و شعبه وامته. وهكذا، ادا طالبت بحقك في دولة حديثة فانت مواطن، وادا قمت بدلك في الدولة الوطنية فانت غير وطني.
هي اذن ليست دول وليست وطنية، وعلى الاجيال القادمة ان تعي مدى خطورة هده الاشكال القاتلة من الحكم، وتعرف حجم خيانتها. هي ليست فقط اشكال فاشلة من الحكم، وهدا يشهد عليه عجزها الفادح في حل مشاكل الحياة مند عقود، وانما قبل ذلك هي اشكال من الحكم خطير على الوجود العربي، وبقاءها خطر حياتي ووجودي على الانسان العربي. لا يمكن ان ندخل الي معركة التحرر والنهوض والاستقلال مع بقاء هده الدويلات. ادا لم نقتنع بضرورة القضاء عليها بعد 40 الف شهيد، وبعد اغلاقها طيلة خمس اشهر شريان الحياة الوحيد لأطفال غزة، وبعد امدادها لإسرائيل بالغذاء وقطعه عن الفلسطينيين، فسيعني دلك اننا لم نستفد من اكبر حدث اليم ومُهين للعرب في العصر الحديث.