في ذكرى الاستقلال التونسي عن الاستعمار الفرنسي، لا معنى لشيء طالما لم ننظر إليه بعيون السابع من أكتوبر. ها قد مضينا في طريق طويل منذ حوالي السبعين عاما، وها نحن نتأكد أكثر فأكثر من نسبية كل معاركنا منذ ذلك الوقت. كيف تحول حلم الاستقلال إلى إيديولوجيا وطنية وضعتنا بادئ الأمر على طريق النمو لتحملنا بعد ذلك إلى إدارة النُّدرة؟ وكيف تعمقت روابط التبعية لتنتقل من وضعية مؤقتة لقدر دائم؟ وكيف لم تعد أي من المعارك الوطنية القديمة تستحث في الأجيال الجديدة أي حماس؟
عيد الاستقلال لم يعد سوى فلكلور في انطباع الأجيال منذ بعض الزمن، وقد استنفذت الدولة ونخبها معانيه كلها عبر صراعات أثارت كل شيء إلا ما توقظه ذكراه: دماء وعذابات الذين اعتقدوا في صدق نضالهم وقدموا دماءهم وأرواحهم بكل صدق، من أجل أن تأتي دولة لم تنفك تسير منذ ذلك الوقت عكس ما أرادوا تماما.
ما معنى استقلال رقعة وطنية صغيرة في عالم يحدد الكبار فيه كل شيء؟ ما معنى ذكرى استقلال تعود كل عام والوضع أسوأ فأسوأ؟ إذا كان الأمر اعترافا بالجميل للمناضلين والشهداء فليكن، وليس ذلك بقليل. أما إذا كان ترسيخا لقناعة لم يعد يصدقها شيء موضوعيا فهذه مجرد سخرية مرة.
والآن، ما معنى استقلال إن لم تكن نواته حرية؟ وكيف لدولة لم تنفك تنتهك حقوق مواطنيها أن تدعي أنها المؤتمنة على نواته تلك؟ هل حان الوقت للنظر إلى ذلك الاستقلال كبداية لخطة إعادة إنتشار للإستعمار لم تتوقف أبدا؟ وهل ما زال ممكنا أن ننظر لاستقلالنا كمهمة اكتملت والإستعمار يأخذ الشكل الذي نراه اليوم في غزة؟ هل لا زال بوسعنا أن ننكفئ إلى ذاكرتنا الصغيرة في هذه الرقعة الصغيرة، والإستعمار يكتسح فينا وحولنا كل شيء؟ هل بإمكاننا اليوم أن ندعي أننا مستقلون في حين أننا نخشى على أنفسنا من انتقام الإستعمار ذاته إذا ما قلنا أننا مع غزة وضد الإبادة؟
هل بإمكان نخبنا اليوم، وهي تخشى حتى من إعادة التفكير في كل ما علق بها من أوهام وأدوار طيلة سبعين عاما وأكثر، أن تكون مؤتمنة على ذاكرة شهداء التحرير الذي لم يكتمل، وأن تستأنف المسير؟ هل بإمكان أحد اليوم أن يقر بالخديعة الكبرى، وألا يكون ذلك في الوقت نفسه علامة التخلي؟ أن يجد في صمود غزة اليوم أمام خلاصة الإستعمار ووحشيته المركزة، القوة الأخلاقية لانطلاقة جديدة؟ تلك الانطلاقة التي تنظر لدماء الشهداء كوعد والتزام، وليس كمجرد فلكلور يشاح بالنظر عنه في اليوم الموالي؟