كنتُ اسير مُتجها الي شارع فلسطين، تحديدا، نحو ذلك الحانوت الذي يقع في اول شارع فلسطين، والذي يبيع لبنا ممتازا. اصولي البدوية تجعلني اعتقد انه لا افطار، بل لا معنى لرمضان بدون لبن وتمر، واحيانا أُشط في البداوة فاقول " ليس فيما خلق الله الذُّ من اللبن والتمر"..غير ان هذا حديث اخر.
عندما وصلتُ الي ساحة جامع القدس، من جهة الشرق، ادهشني المشهد : الالاف من المصلين، وقوفا وجلوسا في الشارع، وتحت اشعة الشمس الحارقة، شبابا وشيوخا، في خشوع وصمت. كيف امكن ان يجتمع الانسان بهذا العدد ويبقى صامتا، الانسان ذلك الثرثار والمشاكس.
كُنتُ، قبل ان اصل الي ساحة جامع القدس مهموما بسؤال : " لقد كان العدو الصهيوني وامريكا يخشيان ان يحلّ رمضان وهما لا تزالان تَلَغَان (من وَلَغ الكلب) الدم الفلسطيني و هاهو اشرف على الانقضاء ولم يحدث شيئا، كيف امكن لجم العربي المسلم بهذا الشكل؟"
تثاقلتُ كثيرا في السير وانا اتجه الي حانوت اللبن، تثاقلت عن قصد لكي اسمع ما يقوله الامام الخطيب في هذا الجمع الغفير الذي يقف في الشمس صامتا..لا شيئ، لا شيئ..كلام فاضي..ثرثرة بلا معنى، حتى انها ، الان، وانا أُكدُّ ذاكرتي كي اتذكر شيئا من كلامه، لم يعلق شيئ منه بها..
يا الاهي؟ كيف تأتينا طاقة بشرية هائلة بهذا الشكل، ونُهدرها بسفاهة، ونحن نواجه مشاكل وازمات تهدد وجودنا؟ كيف لا نوجه هذه الطاقة في مشروع نهوض وتحرر من التخلف والاستعمار والاستبداد ونُبدّدها في لغو الكلام؟..من قال انه لا يجب ان نتحدث في السياسة في الجوامع؟ من قال انه لا يجب ان نوظّف الدين، هذا المحرّك الجبار ، في التحرر والنهوض؟..ثم قفز الي ذهني الصادق النهيوم، رحمه الله، كرس حياته تقريبا للتفكير في اهمية الجامع ويوم الجمعة، باعتبارهما الاقدر على تغيير العقول ودفع الناس في مشروع تحرر..وبالفعل، هذه الامة ظهرت من الجامع، واصبحت امبراطورية بفضل الجامع، ولقد خرجت ايضا حركات التحرر من الجامع..
وقع تدجين، و"تدجيج" الانسان العربي بواسطة سلطة ما يسمى " الدولة الوطنية"، حتى اصبح يرى ابادته الخاصة على الشاشات ولا يتحرك، وقع افراغ كل شيئ من كل شيئ، لا مشروع ولا سياسة ولا علم ولا تربية ولا ابداع في مؤسسات التربية، ولا مشروع ولا تحرر ولا خطاب نهوض في الجوامع، ولا شئ في الاعلام..ما عدا مما بدا: لغو وتمجيد لحاكم محكوم فيه، وعظ بليد في لغة ركيكة ولغو تافه في مواضيع تافهة..
هذه الدولة "الوطنية" مرضنا العضال، وعدونا الظالم الضّال، الذي يقدمنا قربانا على مذبحة الصهيونية من اجل الاستمرار في السلطة. عبثوا بكل شيئ، بالتعليم والصحة والعبادة.."جاهد بالسّنن".