"إسرائيل مرّت من هنا". عبارة بالبنط العريض، باللّون الأزرق، على غلاف جريدة أسبوعيّة معلّقة على خيط ممتدّ على واجهة كشك مدوّر ما يزال ينتصب في سرّة البلدة. ظلّت هذه العبارة ماثلة في الذّاكرة كالوشم.
إنّها لَتعود إلى أيّام تلمذتي الثّانويّة الأولى أتسلّل صبيحة السّبت من معهد القرية الوحيد أنا الرّيفيَّ المقيم الذي لا يكاد يغادر المؤسّسة منذ مساء الأحد حتّى زوال السّبت لأقتنيَ، بما جاد به ديناري الأسبوعيّ الذي يقتطعه والدي رحمه الله من لحم بدنه الطّاهر، ما تيسّر من مجلّات مشرقيّة زهيدة الثّمن غزيرة الفائدة (العربي، الفيصل، العالم...) وجرائد تونسيّة ذات محتوى رفيع ولغة مقبولة (الأيّام، البيان...)
هذا العنوان عاد بي القهقرى إلى واقعةِ ملاحقةِ الكيان الغاصب لقيادات "منظّمة التّحرير" الفتحاويّة في ما سُمّي"عمليّة السّاق الخشبيّة" (قبل أن يُصفّى رجالها بعد زمن بالموت والاعتقال لفسح المجال لأشباه الرّجال المتماهين مع عدوّ شعبهم الزّنيم) الذين احتضنتهم تونس زمنئذ بعد أن أُطردوا من بيروت. دكّت طائرات العدوّ مقرّهم الذي أدركتُ بنفسي ركامَه بعد سنوات في زيارة مقصودة لذاتها من كلّيّة آداب منّوبة التي انتسبت إليها طالبا...
هذا العنوان أخذتني إليه هذه الأيّامَ الحالةُ المزرية التي تعيشها القيادات السّياسيّة لحركة "حماس" المقاوِمة وهم يبحثون عن عاصمة عربيّة إسلاميّة تُؤويهم ولو كِراما على مآدب اللّئام بعد أن لفظتهم الدّوحة لفظا مفاجئا موجعا بضغوط غربيّة صهيونيّة، كما تتناقل وسائل الإعلام المختلفة، لا يقلّ مدعاةً للخجل والوجع من احتجاج زعيم تونس آنذاك لدى "الأمم المتّحدة" على انتهاك تراب بلاده وأجوائها احتجاجا غرضُه، كما تناهى إلى مسمعي لاحقا، والعهدة على القائل، تعويضٌ مادّيّ يحفظ ماء الوجه المفقود أصلا !
بعدها بثلاث سنوات اغتيل خليل الوزير أبو جهاد في منزله بتونس اغتيالا اعترفت بعض القيادات الأمنيّة التّونسيّة التي كانت مباشرة آنذاك بتورّط بعض "الحماة" في ذلك، تماما مثلما حصل قريبا مع المهندس محمّد الزّواري صاحب "أبابيل" المقاومة الغزّاويّة المرابطة على ثغور "خيرأمّة أُخرجت النّاس"!
خصّ الجزءُ الأوّل من كتاب "سيريت ماتكال" الذي ألّفه ضابطان صهيونيّان مشاركان في العمليّة حادثة اغتيال أبي جهاد، فسرَدا كيفيّة الوصول إلى تونس عبر البحر، والنّزول إلى الشّاطئ، والتّجوّل قبالة المنزل عند السّاعة الثّانية فجرا، وتحدّثا عن المنفّذ الذي كان يرتدي زيّ امرأة ويحمل صندوق هدايا به بندقيّة قصيرة ومسدّس كاتم للصّوت، وعن اغتياله لحارس "الفيلّا" ثمّ الجنّان قبل الوصول إلى القائد الفلسطينيّ المستهدَف. كما لم يُهملا الإشارة إلى حضور مجموعة من الموساد قبل أيّام إلى البلد هي التي أشعرتهم بوجود الشّهيد في بيته وبإمكانيّة مغادرته عند السّاعة الثّالثة…
هل سيعثر قادة حماس على عاصمة تحضنهم بعد أن اتّضح انبطاح الجميع ل"مَامَا" أمريكا وفَتاتها المدلّلة "إسرائيل" ؟! وإن حالفهم الحظّ، هل سيجدون الحماية الكافية التي تؤمّن حياتهم من أجل مواصلة رسالتهم السّياسيّة التي لا تقلّ قيمة عن أختها العسكريّة في الدّاخل الصّامد ؟!