كان هذا عنوان مقال كتبه هشام جعيط في مجلة "اليوم السابع" الفلسطينية/العربية أواخر الثمانينات. اليوم يعود سؤال الجامعة بسبب ما يسميه البعض "غياب الحركة الطلابية التونسية" الغريب عن المشاركة السياسية الطلائعية في إسناد المقاومة في غزة وعن الفعل السياسي عموما مقارنة بالحراك الطلابي اللافت في أمريكا خاصة.
يكاد الجميع يتفق على إدانة "البرود السياسي" لطلبة الجامعة التونسية. ويعيدونه إلى ما يسمونه تراجع مستوى الوعي السياسي الطلابي وغلبة "الميوعة الأخلاقية" لدى عموم الطلبة وهيمنة السلوك "التيكتوكي" الاستعراضي التافه لدى الشباب التونسي عموما.. بما أنتج شخصية شبابية أنانية تبحث عن الرفاه الشخصي ولامبالية ب"قضايا الأمة" و"القضايا الكبرى".. طبعا قياسا، حسب هؤلاء، إلى نموذج طلبة السبعينات والثمانينات" الملتزم سياسيا" والمنخرط في النضال السياسي الوطني والعربي والعالمي.
الحقيقة أنا مع التنسيب الشديد لهذا الموقف. لأن المقارنة مع طلاب الغرب ومع جامعة الثمانينات لا تصح مطلقا.
أولا.. الطالب في الغرب الديمقراطي الليبرالي ( وإن كانت ديمقراطية شكلية أسيرة لدى رأس المال العالمي، وهذا موضوع آخر)، حين يحتجّ ضد حكوماته، لا يخشى التعذيب والإهانة وربما الموت في مراكز الإيقاف. ولا يخشى أحكاما طويلة بالسجن وضياعا نهائيا لمساره العلمي وتبعا لذلك الحياتي. وكلنا يتذكر حركات الاحتجاج العنيف ضد العولمة التي تنتهي باعتقالات عنيفة أحيانا ولكنها لا تصل حد الحكم بالسجن لمدة طويلة.
الغرب الرأسمالي لا يتوحش ضد مواطنيه بقدر توحّش أنظمتنا العربية اللاوطنية. لذلك لا يمكنني أن أطالب الطالب التونسي بالتضحية بمساره العلمي وكل مستقبله لمجرّد تظاهرة احتجاجية في دولة لا وزن لموقفها في توازنات السياسة العالمية.
ثانيا.. التسيّس عند أجيال السبعينات والثمانينات كان طبيعيا في سياقه التاريخي. الجامعة التونسية كانت جديدة، وواكبت في نشأتها تيارات الفكر والسياسة في العالم الذي شهد الحراك الطلابي الشهير سنة 1968 في كل من فرنسا وأمريكا واليابان خاصة. ولأن الجامعة التونسية كانت فرنسية تقريبا فقد كانت تستنسح أفكار وانقسامات وصراعات الجامعة الفرنسية.
لذلك ترسخت في جامعة السبعينات والثمانينات تقاليد "التسيّس العالمي" المفرط في مثاليته وحتى مفارقته للواقع التونسي حد الأناركية.
أي أن ما يسميه البعض "وعيا" و"التزاما بقضايا الأمة والعالم" كان في الجزء الأكبر منه احتجاجا فوضويا طفوليا مقطوع الصلة بالواقع.
إضافة إلى أن كل الطلبة تقريبا آنذاك كانوا ينحدرون من أصول اجتماعية فقيرة جدا وتستهويهم لا السياسة فقط بل فكرة الثورة الراديكالية .. سواء ثورة بخلفية طبقية أو ثقافية دينية.. المهم ثورة تحقق لهم طوبى المجتمع الاشتراكي اللاطبقي العادل. عكس طلبة اليوم المنحدرين، في أغلبهم أيضا، من عائلات مشغولة بالكماليات الاستهلاكية لا بالكفاف.
طبعا هذا تفسير عام جدا.. والأمر يحتاج تدقيقا سوسيولوجيا علميا.
المحصّلة.. في سياق تونسي وعربي تهيمن فيه أنظمة لاوطنية ولاإنسانية وبلا أفق، أنا شخصيا لا أطالب الجامعة التونسية والطلبة بشيء.
وتبا.