هكذا تُخرج الشّعبويّة في الإنسان وجهه القبيح…

الشّاب الإفريقي كان في منتهى الأدب أمام العاملة بالمساحة الكبرى التي أمرته بكلّ عنجهيّة أن يحضر حقيبة أخرى بدل الأولى التي يود شراءها، نظرا لغياب " الكود " الرمز المشفّر علىها. لم يفهم الشاب الفتاة التي تكلّمت باللّهجة التونسيّة ولم تستطع أن تترجم للشاب كلامها إلى الفرنسيّة ولم يفهم ما تقول واضطرننا نحن الواقفين خلفه في الصفّ إلى أن نفسّر له الأمر أمام نظرة احتقار العاملة.

مع ذهابه للبحث عن حقيبة أخرى ( وهذا ليس من مهامه بل يفترض أن يقوم بذلك عون في المغازة ) نظرت إليه بحنق وهي تمرّر بضاعتي وهمست كلاما لم أفهم منه سوى: غلّاو علينا الخبزة. طبعا بما أنّي أدّعي بأنّني أعرف تقريبا من " غلّى علينا الخبزة " وأنّ ما يحدث يدخل في سياق محاولة الشعبويّة وأنصارها توظيف ما يحدث لإنقاذ نفسها، بادّعاء رأسها بنفس عنجهيّة العاملة، والناس على دين ملوكهم، بأنّه بصدد مواجهة خطّة جهنّميّة غايتها ادخال الفوضى على البلاد والعباد، فإنّني قلت لها: علاش ؟شنوّة عملّك السيّد ؟

الحقيقة أنّها لم تكن لتقبل أيّ كلمة معارضة ، والناس هنا أيضا على دين ملوكهم، فلقد كان عندها يقين مطلق بأنّ هذا الزّحف الأسود هو استيطان جديد وبأنّ هذا الفتى الافريقيّ سيقطع عليها الماء والهواء والحياة وبأنّه أقلّ بكثير من أن يستحقّ الحياة.

يقين مخيف لأنّه يكشف قابليّة الذّات التونسيّة العليّة في لحظة إلى أن تتحوّل إلى كائن بأنياب وقرون ومخالب قادر على العضّ والنّهش والفتك بالآخر لمجرّد الاقتراب منه ومشاركته ما لا يُشارك في نظره.

هكذا تُخرج الشّعبويّة في الإنسان وجهه القبيح، وتكبّله بالخوف القاتل وترعبه ذلك الرّعب الذي لا يبني إنسانا سويّا ولا مجتمعا سويّا ولا مسارا سويّا.

ولأنّها لن تسمعني ولو قدّمت لها كلّ الحجج فقد اكتفيت بالصّمت في مكان عام يراقب فيه الكلّ الكلَّ وترى العيون تختزن سيلا من الاتّهامات فأنت وطنيّ لو سايرت تيّار الخوف وغير وطني لو حاولت أن تفهم ما يحدث بعيدا عن الانفعالات الغريزيّة. الذّاكرة المثقوبة والعقل المهدور والخوف الجاثم وضيق الرّؤية يمنع حاليّا التّونسيّ من أن يكون. إنّه أسير الآلة التي تطحن يوميّا عقله.

إنّه كائن الخوف الذي تحرّرنا منه ذات يوم والذي يُعاد إنتاجه بقوّة وبأساليب أشدّ. والكائن الخائف سجين إرادة غيره. وهو ما يجعل أفق هذه البلاد يضيق كلّ يوم. حتى لا نكاد نرى الضّوء في المدى.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات