كَم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عندكمُ
ثُمَّ اِنتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
هي عبارة للطّبيب العُمانيّ خالد الشّمّوسي (بروفيسور مساعد واستشاري هضمية ومناظير متقدّمة، حاصل على زمالة أمريكية كندية) الذي نعى نفسه حيّا استعدادا للقاء خالقه شهيدا في معركة غزّة المجاهدة ذات الواجهات المختلفة (انظر الصّورة المرافقة).
هو يرابط بمستشفيات غزّة رافضا العودة إلى بلاده. إنّه طبيب من طينة تكاد تكون نادرة. ترك عيادته التي تضخّ له أموالا طائلة والْتحق بغزّة الأبيّة يداوي جرحاها ومرضاها وضحايا الممارسة الصّهيونيّة المتوحّشة في حقّ المدنيّين التي يُراد بها عبثا محو وشْم ملحمة السّابع من أكتوبر البطوليّة المزلزِلة.
لم يأت به إلى هناك تاركا حنفيّة الأموال وسلامة الجسد والرّوح غيرُ إيمان عميق برسالة مقدّسة صنعها قربٌ من الله وكتابه الكريم. كثيرا ما رأينا الرّجل محفوفا بأطفال غزّة الذين يغمرونه بحبّ فيّاض لا حدّ له. يحيطون به بثغورمبتسمة فيبادلهم شعورا بشعور. لا شكّ أنّه أسهم بما تركت آلة العدوّ الجهنّميّة من أجهزة طبّيّة في إنقاذ حياة المئات والآلاف من هؤلاء القوم الذين اصطفاهم الله لجنّته مَن قضى منهم ومن كُتبت له الحياة، من سيرتقي إلى بارئه ومن سيحيا بإرادة وحكمة منه لا يعلمها إلّا هو جَلّ في عُلاه.
هذا الطّبيبُ الإنسان وضع حياته على كفّ عفريت، وأكّد أكثر من مرّة أنّه لن يكون أفضل من شعب القطاع، وأنّ حياته ليست أثمن من حياتهم، وأنّ الشّهادة مطلبٌ يهون دونه الغالي والنّفيس والقريب والحبيب ونعيم الدّنيا التي لا بدّ فيها من رحيل وزوال. يجمع اللّيل بالنّهار من أجل أداء مهمّته التي جاء من أجلها لا شاكيا ولا متبرّما بل مسرورا مغتبطا مؤمنا محتسبا. يحدّثك بفَخارعن أهلنا المرابطين: عن عميق إيمانهم بالله وبالقضيّة، وعن تشبّثهم العجيب بالأرض والعِرض، وعن كرمهم الحاتميّ وجُودهم بما لديْهم. بكاميرا هاتفه الجوّال، ومن صفحته الالكترونيّة أرسل إلى العالم بعضا من رغيف خبز يابس مخلوط بالزّعتر وَهبتْه إيّاه إحدى العوائل الجائعة المجوَّعة شاكرا ممتنّا معترفا بالجميل كاشفا في شخصه عن مروءة فيّاضة وإنسانيّة نبيلة…
الدّكتور خالد الشّموسي هذا وتجربته التي هي أهل لأن تُدرَّس للأجيال القادمة في الابتدائيّات والثّانويّات والجامعات يذكّراني، بمرارة شديدة للأسف، بواقع الطّبّ والأطبّاء في بلدي (ما بقيّة القطاعات عندنا بأحسن حالا من الطّبّ، فالتّونسيّ واحد لا محالة.
تربّى على الفردانيّة المقيتة والجشع البئيس وعلى "أنا ومِن بعدي الطّوفان" !). عياداتٌ خاصّة تعجّ بالمرضى تجمع مداخيل خياليّة لا يصل منها خزينةَ الدّولة غيرالفُتات (على أنّ وصول غير الفُتات إلى الدّولة غير مضمون التّوجيه إلى الصّالح العامّ لعقليّة عند الموظّفين والمسؤولين نشأت منذ زمان على "رزڨ البيليك"!). أطبّاءُ مستشفيات "متخصّصون" يتقاضوْن جراية محترمة من الوزارة ذات الشّأن ويفرضون على الدّولة المترنّحة أن تفتح لهم في المؤسّسات العموميّة عيادات خاصّة تذهب مداخيلُها إلى جيوبهم المتورّمة !
هؤلاء الأطبّاء ذوو الاختصاص الذين أنفقت المجموعة الوطنيّة ما أنفقت في سبيل تعليمهم تحدّوْا الدّولة المستضعفة ورفضوا رفضا قاطعا الالتحاق بالدّواخل التّونسيّة (لست أدعوهم إلى الالتحاق بغزّة هههه) حيث مواطنوهم العاجزون عن توفير لقمة العيش فما بالك بثمن الانتقال إلى المدن النّائية وبمعلوم العيادة الخاصّة وبنقود الدّواء الشّافي…
لِيسمحْ لي نزارٌ في قبره أن أقول:
يا غزّةَ الأبيّةَ جئتُك عاشقا وعلى جبينيَ سِمةٌ وكتابُ.
ملاحظة: كتابُ البيت المحاكِي غيرُ كتاب البيت المحاكَى !