المتأمّل لصورة الزّعيم الرّوحيّ للثّورة الإيرانيّة، "آية الله روح الله الخميني" (عذرا على الإطالة !) بالأبيض والأسود عند عودته إلى إيران بعد خمسة عشر عاما من المنفى يراه عند الهبوط من مصعد الطّائرة مُحاطا بمجموعة من أقرب حلفائه. يتساءل المتسائلون: لماذا لم نرَ هؤلاء أمس واليوم ؟ عند البحث عن جواب للسّؤال نُواجه مفارقة مُفادُها أنّ معظم هؤلاء قد صُفّيَ في السنوات القريبة اللّاحقة لهذه العودة.
ومن هنا، وبهذا اتّخذت الجمهوريّة الإيرانيّة سبيل الصّراعات والتّكتّلات والعصائب وصراع النّفوذ والضّرب تحت الحزام... وكلّها عوامل لا نشكّ أنّها حوّلت الحكم "الجمهوريّ" إلى مُلك عَضوض يُفتكّ بالقوّة كما قال ابن خلدون، قوّةِ الأجنحة المتنفّذة التي تدخّلت في عديدة الانتخابات لترجّح كفّة هذا على ذلك.
ما نقرأه هذه الأيّام بمناسبة حادثة وفاة رئيس الدّولة ووزير خارجيّته ومن معهما الأليمة في تحطّم مروحيّتهم الذي أسال كثيرا من الحبر وكشف بعض المستور في انتظار بعضه الآخر، يفضح الأسس التي تقوم عليها الأمور في جارة عُربان الخليج الفارسيّة المصدِّرة لثورتها ومنابعها الفكريّة المذهبيّة في محيطها الجغرافيّ العربيّ تصديرا رأينا معه منتسبي الفكر "العروبيّ" في عالمنا العربيّ الذي تدور حوله الأحداث وهو نائم في عسله المعتاد يعتبرون فجأة هذه الدّولة الفارسيّة حبيبة عزيزة صفيّة (لا علاقة لها ب "صفويّة" و "تصفويّة طبعا).. ربّما لمجرّد تثبيتها عرش آل الأسد الدّمويّين في دمشق (آخر أنظمة هذا الفكر العسكرجاتيّة الحاكمة سبعةَ عقود كتَبت خلالها للعرب تاريخا مخجلا بدماء مواطنيها المعارضين كما هو الشّأن في جمهوريّة إيران موضوع هذا المقال).
دمشقُ التي "تعطي للعروبة شكلها وبعطرها تتطيّب الأطياب" كما قال الشّاعر نزار قباني، تتحوّل اليوم إلى فارسيّة الوجه واليد واللّسان على مرأى ومسمع من رئيس بلا شعب ومتعاطفين بلا عقل يحلّل ويؤوّل ويسأل ويتساءل: "ثمّاش ڨطّ يصطاد لربّي؟"... ولَسوف يقف المغفّلون والطُّرشان يوما على هذه الحقيقة المُرّة التي بدأ شهود العيان والدّارسون يرصدون خطاها الحثيثة المسابقة للزّمن…
دعُونا من سوريا ولْنعد إلى إيران التي لا أنكر ما قدّمته للمقاومة الفلسطينيّة لكن دون أنسى مثَل القطّ الصيّاد.
لقد آلمني ويؤلمني هذا الانشغال بالانشقاق المتواصل منذ مطلع الثّورة حدَّ التّخلّص الدّنيء من "الأخ العدوّ" داخل أروقة السّلطة، فضلا، وهذا أشدّ وأنكى، عن التّنكيل بالمعارضين من أبناء البلد ومن العراقيّين (خلال الحرب) ومن أبناء سوريا الرّافضين للتّغلغل الصّفويّ (روايات يذهب بسببها العقل)...آلمني هذا، من حيث المبدأ، لما في المسألة من غياب للإنسانيّة والمروءة وحقوق التّعبير والاختلاف، ولِما صُنع من داخلٍ أمنيّ استخباراتيّ مهزوز في دولة نوويّة !
لقد اغتيلت (لا نتحدّث عن المناورات البينيّة الدّاخليّة) نسبة من أفضل علماء البرنامج النّوويّ في وضح النّهار وفي شوارع البلد على يد الموساد الإسرائيليّ ! كما صُفّيَ قادة كبار في الحرس الجمهوريّ وغيره خارج البلد وتحت الشّمس أيضا... وظللنا لا نسمع غير عبارة: " نحتفظ بحقّ الرّدّ في المكان والزّمان المناسبيْن".. دون أن نرى من ذلك شيئا يُذكر…
الرّئيس الرّاحل المتفحّم إن صحّت الصّورة المتداولة (طبعا لا شماتة في حيوان، فما بالك بآدميّ) اندفعت الحقائق هذه الأيّامَ طوفانا حول تاريخه الملطّخ بدماء الآلاف منذ الثّمانينات قاضيا رئيسا للجنة الموت كما يسمّيها مواطنوه... نجلُ "مرشد الثّورة" مُجتبى خاميناي الذي يرجَّح ضلوعُه في تصفية رئيسي ومن معه هو، كما يقول العارفون، صاحب اليد الطّولى والأشدّ نفوذا اقتصاديّا وأمنيّا وسياسيّا بفضل موقع والده "الجمهوريّ" العجيب: مرشد الثّورة (أُعطيَ مؤخّرا لقب "آية الله" تمهيدا لخلافة أبيه).. زد على ذلك مضحكاتٍ مبكياتٍ أخرى عديدةً لا يتّسع المقام للمرور عليها.
قوّةُ إيران مطلوبة في منطقة تهتزّ من تحتها الأرض وتَميد باستمرار يسكنها عربٌ تُبّعٌ ليس لهم للأسف غير الإمساك بتلابيب هذا أو تلابيب ذاك، شريطة ألّا تهدّد هويّتنا العربيّة، وألّا تحكم شعبها بالحديد والنّار وبتغلغلِ الأقلّيّة كالبرْد في مفاصل البلد لصناعة فساد عجزت البلادُ بسببه عن توفير الوسائل التي تُجنّبها حرجَ مجرّد العثور على حطام طائرة رئيسها في وقت وجيز، ودون الحاجة إلى أحد بتعلّة لا تنطلي على مجنون هي عدم إمكانيّة دخول قطع غيار الطّائرات بفعل حضر أمريكا المفروض عليها (مسيّراتها رجّحت كفّة روسيا في حربها ضدّ أكرانيا المدعومة أمريكيّا وغربيّا).
لَكَم أمِلتُ تلميذَ ثانويٍّ مبتدئا في ثورة إيران "الجمهوريّة" على ملَكيّة الشّاه رضا بهلوي أن تُشعّ إيجابا على عالمنا العربيّ لكنّها خيّبت ظنّي بسلوك قِطّها المذكور سابقا، وبإقبالها المحموم على أكل أبنائها الذي حرمها من حاضنة شعبيّة حامية دافئة مفتَّحة العيون لا تسمح للطّائرات المسيّرة أن تنطلق من التّراب الإيرانيّ لضرب بعض مصالحها بين الفينة والأخرى..
يبدو أنّني لم أغنم من هذه "الثّورة" غير عطلة ببعض أيّام عدت خلالها من "سجن" مبيت معهدي الثّانويّ إلى الأسرة والبيت والرّاحة والغنمات والتّرونزيستور الذي كنت ،سامحني الله، أُركِبه بطاريّةً أكبر منه وزنا أشدّها إلى ظهره بخيط مطّاط أنتزعه من حزام داخليّ لسروال خرج عن الخدمة بعد أن أنهكته الفتوق والرّتوق.