"لا دساترة لا اخوانجية.. لا دولة إخشيدية" شعار مستفزّ وحادّ وربما عنيف. شعار رفعه "متظاهرون جدد" أمس في مسيرة أراد أصحابها أن يحتجوا على ما يرونه استهدافا للحريات و"استبدادا"، بعد الإيقافات والمحاكمات الأخيرة.
النواة الأولى التي دعت إلى التظاهر شباب ماركسي يبدو أنه قريب جدا من "تنظيم الشباب الشيوعي" الجناح الشبابي لحزب العمال، وربما انضم إليهم بعض الوطد من شق زياد لخضر الذي أخذ مسافة نقدية من الانقلاب. لكن يبدو أن المظاهرة التحق بها كهول الحزب الشيوعي أو حزب المسار (لمحت جنيدي عبد الجواد وفتيحة السعيدي)، أقول "التحق" حتى لا أقول أنهم من منظّميها ورعاتها بالنظر إلى "عودتهم المفاجئة" إلى الشارع بعد احتجاب طويل.
الشعار السياسي عموما تعبير مكثف عن موقف أو فكرة أو زخم عاطفي أي حلم. يعني هو بالضرورة حاد وصادم وحاسم. وبحكم كثافته يكون اختزاليا بالضرورة. والاختزال فيه تضحية بالتحليل والتفسير أي بالوضوح.
خذ مثلا شعارات الثورة:"خبز حرية كرامة وطنية". الخبز يعني الكفاف والقناعة، لكن ما حدث بعد الثورة بمجرد ارتخاء قبضة الدكتاتورية أن المجتمع أطلق العنان لنهمه وطمعه وأنانيته، وعوض إعطاء الأولوية لتوفير العمل للعاطلين والمفقرين والجوعى، قفزت كل القطاعات لابتزاز الدولة ومطالبتها بالترفيع في الأجور وتحسين مستوى عيشها(وهو مطلب مشروع في سياق آخر لكنه لم يكن أولويا). وتبين أن شعار الخبز لا يحمل معنى واحدا عند كل الطبقات.
الحرية أيضا انقسم الناس في فهمها بعد الثورة. رآها الليبراليون حرية أمينة فيمن وفيلم لا ربي لا سيدو.. ورآها اليساريون التنصيص في الدستور على حرية الضمير والاعتقاد أي حرية اللادين، ورآها الإسلاميون حرية مسقوفة بدين الشعب، أي أنت حر ولكنك ملزم بالتنصيص على دين المجتمع في الدستور.
فالشعار السياسي، وإن بدا جامعا وجميلا أو منفرا وصادما، فهو بالضرورة مجرد عنوان يحتاج تفكيكا وشرحا وترجمة.
لذلك.. شعار أمس مستفزّ في راديكاليته السياسية التي ترفض قطعيا كلا من الدساترة والإسلاميين والنظام الحالي. بل هو مستفز أيضا في معجمه العامّي إذ أن لفظ اخوانجية يحمل دلالة سلبية ويرتقي إلى أن يكون سُبّة. ومع ذلك يمكن تفهمه جدا. لأن اللفظ فرض نفسه في التداول العام وفقد شحنته السلبية القديمة عند الأجيال الجديدة، إضافة إلى أن الشعار تحكمه "ضرورة موسيقية" لزوم سلاسة الترديد الموقّع. فلا ضرورة لتحميله أكثر ممّا يحتمل.
أما مضمونيا فرفض تجارب الحكم الثلاث بعد الثورة واعتبارها فاشلة، هو من صميم حق أي كان. والمحاججة بأن المساواة بين الانقلاب وحكم الإسلاميين الديمقراطي لا معنى له. لأن الشعار ليس تحليلا سياسيا. ومع التحليل يمكن أن يثبت لك أي مدافع عن الشعار أننا بعد الثورة لم نكن نعيش ديمقراطية "وطنية" بل تجربة مخترقة كليا من السفارات الأجنبية التي كانت تتحكم في كل قوانين اللعبة الانتخابية تمويلا وإعلاما وتشكيلَ أحزاب… الخ.
المحصلة:
أولا.. عوامل الانقسام في المجتمع السياسي التونسي، والتي تم توظيفها ببراعة لخلق مناخ انقلابي مثالي، ليست فقط ما تزال قائمة، بل تعمّقت وتأبّدت. بما يعني استحالة إنتاج بديل وطني عن الانقلاب من خميرة التشكيلات السياسية التقليدية، الدساترة والإسلاميون واليسار. والحديث عن وزن واقعي للعائلتين الأوليين لا معنى له. ليس قدر التوانسة أن يظلوا أسرى تاريخ الانقسام العاجز والاستقطاب السخيف.
ثانيا.. قناعتي أن "الشباب الجديد" أسخف كثيرا من فرقاء السياسة التقليديين.
وبناء عليه.. تبا جدا.