لا بدَّ قبل الحديث عن تأثير ما جرى، ويجري، في غزّة على السياسة العربية بصورةٍ عامّة، مِن تحديد أهمّية هذه الحرب الإباديّة المروِّعة وخصوصيتها، والتي لم يشهد عالمنا لها مثيلاً مِن قبل. كنّا دائماً نقول إنّ ما قبل هذا الحدث وما بعده سيكونان مختلفين، ولكنّ خطورة ما جرى، ويجري لا تمكن مقارنته إلا بالنكبة في ١٩٤٨. وهناك ما هو جديدٌ وهناك ما لا يتّسم بالجدّة في هذه المجازر الإسرائيلية المتوالية في غزّة. والفصل بين الجديد والقديم في الممارسة الإباديّة الإسرائيلية ليس سهلاً لأن هناك دوماً خيطاً من الاستمرارية في الحروب والجرائم الإسرائيلية.
الحركة الصهيونيّة هي هي، رغم تعاقب الحكومات ومرور العقود. لم تخضع الصهيونية لتغيير أو تعديل: لا تزال هي تلك الحركة الاستعمارية العنصريّة التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر والتي اعتبرت أنّ حقّ اليهود، ومِن أي مكانٍ في العالم، يتفوّق على حقّ السكّان الأصليّين في فلسطين. والصهيونية اعتبرت أنّ لليهود وحدهم الحقّ في تقرير المصير على أرض فلسطين (أصبحت المقولة الأخيرة قانوناً في دولة إسرائيل في عام ٢٠١٨). لنتحدّث بدايةً عن ما هو جديد في هذه الحرب: أوّلاً، ليست هذه الحرب جديدة إذا ما قسناها بأنماط تاريخيّة مِن العنف الجماعي والإرهاب الإسرائيلي وحتّى الصهيوني (قبل إنشاء الدولة).
فرضية أنّ العرب لا يفهمون إلا لغة القوّة سمةٌ مِن السمات المبكرة للحركة الصهيونية. وكانت الفيلسوفة حنا أرندت قد علّقت على هذه المقولة في مقالةٍ بعنوان «السلام أو الهدنة في الشرق الأدنى» في مجلّة «ريفيو أوف بولتكس» في يناير ١٩٥٠، قائلةً إنه رغم الآمال بعكس ذلك، فإنه مِن المؤكّد، عبر متابعة الصراع العربي الفلسطيني منذ بدايته، أنّ العرب لا يفهمون لغة القوّة. وهذه الفرضية ظهرت بقوّة في استشراق بيرنارد لويس وغيره في مرحلة التحضير للحرب الأميركية في العراق (ونشرت مجلّة «ناشيونال ريفيو» ذلك في ٢٠٠٣). بدءاً من الثلاثينيات آمنَ الصهاينة بضرورة إرهاب السكّان الأصليين (حرفياً) في فلسطين لأنهم وعوا أنهم لن يستطيعوا التخلّص منهم بسهولة. أدرك الصهاينة الأوائل أنّ العنف ضروريٌ للتعامل مع هذا الشعب المُتمسِّك بأرضه.
وكتاب «تاريخ الصهيونية» للصهيوني والتر لاكور كان صريحاً أنّ العصابات الصهيونيّة باشرت في الثلاثينيّات برمي القنابل في الأسواق وفي الحافلات مِن دون أي اكتراثٍ بالفصل بين المدنيين والعسكريين. أي إنّ الاستهتار الكلّي بحياة المدنيّين في القصف والتدمير الإسرائيلي جزءٌ لا يتجزّأ مِن سياقٍ تاريخي نستطيع رصد بداياته خلال مرحلة نشوء الحركة الصهيونيّة ومكامنها العنصريّة. مناحيم بيغن احتفل في كتابه «التمرّد» بمجزرة دير ياسين قائلاً إنها وفّرت عليهم مهمّات طرد الفلسطينيين لأنّ الذعر الذي أصابهم تكفّل بذلك. وإسرائيل عمدت باستمرار إلى استعمال العنف الجماعي ضدّ العرب، مِن حقبة النكبة إلى حرب الاستنزاف في مصر إلى الحروب مع لبنان ومجزرة قبيا في الأردن وغير ذلك الكثير.
ثانياً، ليس جديداً ما يجري لأنّ إسرائيل عندما ترتكب جرائمها فإنها تستطيع أن تعتمد على الدعم الغربي المطلق. الغرب ثابر على دعم وتغطية جرائم إسرائيل مهما كانت فظيعة. نلاحظ ذلك اليوم كما لاحظ العرب رعاية الاستعمار البريطاني للمشروع الصهيوني.
ثالثاً، ليس جديداً ما نلاحظه اليوم مِن ناحية الخداع الإسرائيلي والتلاعب بوسائل الإعلام الغربية، ويمكن أن نضيف العربية لأنّ التغلغل الصهيوني في الإعلام العربي انطلق بقوّة منذ تأسيس جريدة «الشرق الأوسط» ومحطة «العربية» (ويمكن إضافة وسائل إعلام أخرى خصوصاً محطّتي «إل بي سي» و«إم تي في» و«النهار» في لبنان ).
رابعاً، ليس جديداً أنّ إسرائيل تستطيع أن تعتمد على الدعم الأميركي المطلق لحمايتها مِن العقاب ومِن المحاسبة. عندما قرّر ديفيد بن غوريون في عام ١٩٤٢ أن ينقل مركزَ الثقل للحركة الصهيونية مِن أوروبا إلى أميركا (عندما عُقد مؤتمر الحركة الصهيونية في نيويورك في فندق بيلتمور) سعت الصهيونية إلى أن تكون أميركا الحامية الأولى والأساسية.
خامساً، ليس جديداً ما شاهدناه مِن ناحية الخيانة العربية مِن قبَل كلّ الأنظمة وإنْ كان ذلك بدرجاتٍ متفاوتة: هي إمّا خانت أو هي خذلت أو هي تملّصت أو تنصّلت أو هي خافت مذعورةً مِن عقاب أميركي. أليس مدهشاً أنْ يُقدّم مندوب الجزائر في مجلس الأمن شكرَه للحكومة الأميركية على جهودها لوقف النار في غزة بعدما شهد ما شهدناه مِن مشاركةٍ فعلية وأساسية لأميركا في حرب الإبادة؟ لمْ نعد نستغرب أن يطير رئيس الأركان الإسرائيلي قبْل أيّامٍ إلى البحرين كي يجتمع وينسّق مع قادة الجيوش في بلدانٍ عربيّة بما فيها السعوديّة ومصر والإمارات والأردن والبحرين، حسب «أكسيوس ».
سادساً، ليس جديداً النهجُ الصهيوني في مساواة معاداة الصهيونية بالنازية وبمعاداة السامية. هذا أسلوبٌ قديم جدّاً نستطيع أن نتلمّسه منذ الستينيات مِن القرن الماضي. وقد كان مِن روّاده الصهيوني إيلي فيسيل والإسرائيلي أي مس أوز (تنقلُ صفحاتُ لبنانيّين أقوالاً وحكماً لفيزيل الذي نال جائزة نوبل للسلام رغم عنصريّته وضحالة «أدبه» ودعمه لكل الحروب الإسرائيليّة. وهو كان هدفاً لاتهامات بالتحرّش بقاصرات، ولكن الإعلام هنا غطّى على ذلك). الاثنان ساويا بين حركة التحرّر الفلسطيني وبين النازية لأنّ ذلك يسهّل مَهمّة التحريض والتأجيج ضدّ المقاومة الفلسطينيّة وأهداف التحرير.
أمّا في ما هو جديد في ما يجري في حرب الإبادة في غزة، فيمكن ملاحظة التالي:
أولاً، إنّ مستوى القتل الجاري وحجمه غيرُ مسبوقين حتّى لو قسناهما بسياق الإجرام والعنف الجماعي الإسرائيلي ضدّ العرب. لقد قتلتْ إسرائيل في أشهرٍ أكثرَ ممّا قتلتْه في عقود. وبالمجموع، قتلتْ في غزّة حتّى الآن أكثرَ ممّا قتلتْ في النكبة، أو هي قتلتْ أكثر مِن ضعفي عدد الذين قتلتْهم في النكبة، طبعاً مع اختلاف نسبة الضحايا بالنسبة إلى عدد السكّان.
ثانياً، تغيّرت إسرائيل وصعدت قياداتٌ يمينية فاشية جديدة. المروحة السياسية الإسرائيلية جنحت بقوّة نحو اليمين المتطرّف. هذا لا يعني أبداً أنّ قيادات إسرائيل التاريخية (وكان بعضهم اشتراكيين وشيوعيّين وعلمانيّين بأصناف مختلفة) كانت أقلّ إجراماً وعنصرية وإبادةً مِن الحكّام الحاليين أبداً. كلّهم سواء في النوايا وفي الأهداف. لكنّ القيادات التاريخية كانت أكثر مراعاةً لحساسيّات مشاعر الرأي العامّ الغربي.
كانوا يلجؤون إلى التدليس والخداع والرياء لكسب الرأي العامّ الغربي. القيادات الحالية في إسرائيل لا تكترث لذلك أبداً وهي لا تمانع في استفزاز مشاعر الرأي العامّ الليبرالي في العالم الغربي وتحدّيها (لكن الليبراليّة الغربيّة تغضّ النظر عن ممارسات إسرائيل وعنصريّاتها). وقد يعود ذلك ليس فقط إلى اختلاف شخصيات زعماء إسرائيل وإنما لأنّ الحركة الصهيونية اليوم في أزمة عويصة وإسرائيل مرتبكةٌ أكثرَ مِن السابق، ولهذا إنها فقدتْ تلك المهارة التي اشتهرتْ بها في مجال البروباغاندا. لقد جمعتْ حكومة جنوب أفريقيا (في دعوتها أمام محكمة العدل الدوليّة) نماذجَ صريحة عن نيّات إبادة مِن قبَل قادة العدوّ في الحكومة الحاليّة. كان قادة العدوّ يجوّعون الشعب الفلسطيني ويمنعون عنه الدواء والغذاء لكنهم لم يكونوا يصرّحون بذلك علناً. القيادات الحالية لا تكترث وتعبّر عن نيّتها الإجرامية بصراحةٍ وصفاقة. وهذا أمدّ حكومة جنوب أفريقيا بدلائل قانونية في دعوى الإبادة.
ثالثاً، هناك مستوىً جديدٌ مِن التدمير المقصود للمجتمع وللبنية التحتية في الحياة العاديّة في فلسطين. وفي السنوات الماضية كان قادة العدو صريحين في إعلان نيّتهم بإعادتنا إلى العصر الحجري أو بتدمير حضارتنا. هذه إعلاناتٌ إباديّة في القانون الدولي. يتحدّثون بصراحة عن إعادة لبنان إلى العصر ما قبْل الصناعي. ولا يخشى قادة العدوّ عواقب لأن أميركا ستحميهم ولو رموا قنبلةً نووية على غزّة أو على لبنان. إنّ مشاهدة صور التدمير في غزة تكفي للاستنتاج بأنّ إسرائيل تريد تدمير المجتمع الفلسطيني في غزة وحرمانه مِن إمكانات إعادة البناء، تماماً كما تصرّ أميركا على حرمان الشعب السوري مِن إعادة البناء والإعمار.
رابعاً، لقد أسفر الغرب عن وجهه الحقيقي بأنه ليس إلا حلفاً استعماريّاً عسكريّاً. الغرب ليس إلا حلف شمال الأطلسي وكل ما عدا ذلك مِن شعارات ومِن تغنٍّ بالديموقراطية والحرّيات لم يكن إلا ستاراً شفّافاً لنوايا إجرامية حربيّة.
خامساً، اجتمعَ كلّ الصهاينة مِن كلّ التيّارات والأحزاب وتوحّدوا - أكثر من أيّ وقت مِن قبْل - حول دونيّة العنصر العربي وحول ضرورة استسهال إزهاق الأرواح العربية. ليس هناك في ذلك يمين وسط أو يسار رغم إصرار نايف حواتمة في الماضي على ضرورة الحوار مع القوى الديموقراطية في إسرائيل (والتي عنى بها منظمة «ماتزبن» ذات الأعضاء الخمسة). العنصرية الصهيونية باتت مُجاهِرةً وليس هناك مِن معارضةٍ وليس هناك مِن فرارٍ مِن الجيش وليس مَن يقبَلُ بيْن الرأي العام الإسرائيلي بوقف النار أكثر مِن واحدٍ أو اثنيْن في المئة. وسيلة إعلام «ميغافون» تغنّت بخمسة متظاهرين إسرائيليّين ضدّ الحرب في إسرائيل، ولعلّها فعلت ذلك لتدعونا - هي وسوروس - في المستقبل إلى ضرورة «الحوار مع القوى الديموقراطية في إسرائيل ».
سادساً، هناك الصهيونية وهي هي لم تتغيّر وإن باتت أقلّ اعتماداً على الحيلة والخداع في توجّهها نحو العرب. الصهيونية في ظلّ حزب العمل وإسحاق رابين لم تتحدّث عن دولةٍ فلسطينية. الرجل لم ينطق بالعبارة مرّة واحدة خلافاً للأدبيّات التي لا تزال تتغنّى به في الإعلام العربي. الصهيونية لا تخشى مِن القوّة العربية الرسمية، ولهذا هي تتجاهل النظام الرسمي كلّياً، كما تجاهلت على امتداد أكثر مِن عشرين سنة مبادرة السلام العربية.
هي تعلم أنّ الجامعة ستستمرّ في الدعوة لها رغم أنّ إسرائيل كانت صريحةً (في كلّ أحزابها) برفضها لها وبرفضها للدولة الفلسطينية. ليس هناك في المروحة السياسية الإسرائيلية الحاليّة مَن يقبل بدولةٍ فلسطينية ولو على شبر مِن أرض فلسطين التاريخية.
الحركة الصهيونيّة في الماضي كانت تخفي نواياها وكان ذلك واضحاً في صياغات الوثائق الأساسية الأولى في تاريخها. وعدُ بلفور لم يتحدّث عن دولةٍ يهودية بل عن ملجأ أو حتّى «منزل وطني» في مكانٍ ما في فلسطين. لم يحدّدوا المكان يومها. وتدرّجت الأهداف المعلَنة للحركة الصهيونية حتّى تصل إلى التعبير (بالإنكليزية في أوّل الأربعينيّات) بعبارة تجنّبت أيضاً كلمة دولة. كانوا جاهلين بضعف الدول العربية وعجزها وإنْ كانوا يدفعون مرتّباتٍ للكثير مِن القادة ولكنهم خافوا مِن ردّ الفعل الشعبيّ لو هم أعلنوا صراحةً وجهاراً مطالبهم.
ملاحظة: هذه المقالة مستقاة من محاضرة ألقيتُها قبل أسابيع في كليّة لندن للاقتصاد والعلوم السياسيّة.