ليست الانوار حركة فكرية تخص ثقافة بعينها وزمان بعينه، وانما هي حسب تخريج طريف وعميق لهيجل " حالة ذهنية مخصوصة تمر بها اية ثقافة تتعرض فيها المرجعيات القديمة والثوابت التقليدية الي خلخلة شديدة بفعل ازمة عميقة"، حينها يبدأ عالم قديم في الاحتضار وعالم جديد في الظهور.
صنع الاستعمار دُويلات تابعة ووضع على راس كل واحدة سلالة او قبيلة او "قائد"، واستعمل هؤلاء زُمرة من السحرة والشيوخ والخطباء مُهمتهم تدجين الناس ونشر ثقافة الطاعة والولاء وتفضيل السلطة الغشوم وتصوير كل احتجاج على انه فتنة وخروج عن الاجماع والسنة. والي هذا هناك ترسانة من الاكاذيب: الدولة الوطنية، والسيادة الكاذبة تحت حماية الاساطيل والقواعد، والتدين الكاذب الذي يأمر بطاعة ولي الامر وان كان فاسقا وفاسدا وعميلا،والاستقلال الكاذب، والحداثية بلا حداثة، والتقدمية بلا تقدم..والمقاومة، والمعركة، وفلسطين..
عقود وهذه الدويلات تطحن الانسان العربي باسم واحدة من هذه الاكاذيب. اذلته وشردته باسم هذه شعارات لا وجود لها ابدا.
ما اثبته الطوفان هو ان هذه الكيانات هي كيانات وظيفية في خدمة الاستعمار. هي "محطات بنزين على كل محطة عَلَم" كما وصفها الانجليز، او هي شركات امنية تُعذّبُ فيها امريكا من تصفهم بالإرهابين وهذا حال الاردن. اقوى دولة عربية لا تقوى على فتح معبر هو مصري فلسطيني ولا دخل للاحتلال فيه.
اذا لم يوضع وجود هذه "الدولة" موضع تساؤل بعد ما نراه من ابادة، واذا لم نكتب ونفكر في تدمير هذه الدولة واستبدالها بأخرى تكون فعلا دولة و وطنية وسيادية، فان "اسرائيل" تكون قد انتصرت نهائيا. ان الطوفان هو الازمة الكبرى والفاضحة لهذه "الدولة"
ولكل كيان وظيفي جُند من الوظيفيين: انهم "قادة راي" وشيوخ وخطباء ووعُاظ، وقوى واعلام واحزاب ومنظمات . في كلمة: هيلمان وظيفي. طيلة تسعة اشهر لم يحرك ساكنا: ابادة ومجاعة وتهجير وتمزيق وتدمير، وهذا الهيلمان ميّت لا حراك به. لا يمكن ان ننتظر من كيان وظيفي ان لا يكون اعضاؤه وظيفيين. سيقول الثوار التائبون: ولكن الدولة الوطنية امر واقع. نقول: حتى " اسرائيل " امر واقع، والفقر والتخلف والقهر امر واقع.
علينا ملاحظة التزامن بين "مسار السلام" الذي انتهى ب"اوسلو" وظهور "قادة" و" شيوخ" سلطان يحضّون على الانخراط في الليبرالية وثقافة الاستهلاك و"تنمية الذات" والابتعاد عن السياسة وطاعة ولي الامر. لقد فُتحت المنابر لعمرو خالد ووجدي غنيم ومحمد العيسى الذي شارك في اتفاقية باريس للعائلة الابراهيمية، والسديس وعبد اللطيف ال الشيخ، والمغامسي والغامدي..
لقد عمل "وُعّاظ التلفزيون" هؤلاء على انتاج دين اسلامي مُثقل بالطقوس والفلكلور وخال تماما من السياسة وفكرة التحرر ومطلب العدالة وواجب النقد ومعارضة السلطة.لقد توارت تماما السياسة و فكرة الجهاد- بعد ان وظفتها امريكا ومولتها السعودية لضرب الاتحاد السوفياتي في افغانستان- والثورة وتحرير الارض .لقد عمل هؤلاء جميعا على انتاج شكل من التقوى يناسب السلطة في مصر والسعودية والامارات والاردن والمغرب، وكانت كوكاكولا وفودافون ونستلي وسمسونغ تمول المشاريع الشبابية التي يدعو لها هؤلاء "الفقهاء "( انظر: اصف بيات ما بعد الاسلامية).
لقد هاجم وعّاظ التلفزيون الربيع العربي ووصفوه بالفتنة والخراب، ثم خربوه بالفتاوي والقضايا المدمرة التي اذكت الصراع المذهبي بين طوائف تعايشت لقرون . تحالف هؤلاء مع الانظمة القائمة ومع الصهيونية والاستعمار، بدون ان ننسى توظيف الانظمة للقوى التي تنتحل التقدمية والقومية والديمقراطية. لقد حوربت الثورات باسم المحافظة على الدولة "الوطنية" وعلى الجيوش "الوطنية" التي ستواجه "العدو" وتحرر الارض.
ماذا نرى اليوم؟ اين هؤلاء وهذه الشعارات وهذه الجيوش؟
لقد دفع الطوفان بالأكاذيب التي عاشت بها دولة ما بعد الاستعمار المباشر لعقود الي حتفها الاخير: سكت الشيوخ والوعاظ ، ولاذت الجيوش بثكناتها تشاهد الابادة عبر التلفاز. اما منتحلو التقدمية والناطقون الحصرييون باسم فلسطين والمقاومة فهم في حيص بيص حقيقي: اذا انتصرت المقاومة سوف ينتصر "الاسلام السياسي" و"الاخوان" "التنظيم العالمي". لذلك يصمتون الان.
اذا لم يحمل هؤلاء الوظيفيين الي حتفهم الاخير، واذا لم نفكر في ذلك ولم نكتب في ذلك ولم ندع للتخلص منهم تكون "اسرائيل" قد انتصرت نهائيا.