ما أزال واحدا من مجترحي إثم القراءة في زمن أضحت فيه غريبةً كصالحٍ في ثمود. ما دخلتُ مدينة إلّا وزرتُ كبريات مكتباتها التّجاريّة أُنفق من جرايتي ما يقع عليه اختياري من كُتب بمختلف أجناسها (حتّى أيّامي الثّمانية والخمسين، التي قضيتها في معتقل المرناڨيّة بفعل وشاية من بعض "قَوّادي" محلّيّتي ابتغى بها حقدُهم الأيديولوجيّ الرّثُّ وحِرفتُهم الأزليّة إرسالي وراء الشّمش أنا ووظيفتي موردِ رزقي معوِّلين على الفصلِ أربعة وخمسين، أعانتْني عليها الكتبُ التي استطعتُ أن أحصل منها على ما يكفي أسبوعي من مكتبة السّجن بفضل تطوّع تلقائيّ منعش جدّا من بعض السّجناء البسطاء - فكّ الله أسْرهم وفرّج كربهم - (بعضُهم أمّيٌّ !) لطلب ما أقترح عليهم من عناوين يسجّلونها بأسمائهم، فضلا عن اجتهاد بعض أعوان الجناح مشكورين في استقدام المشرفين على المكتبة في الإبّان لاستبدال ما قُرئ بما تُرجى قراءته).
ها أنا أنتزع خلال مصيفي هذه الأيّامَ شيئا من وقت الاستجمام لقراءة رواية "الكرنفال" للفقيد محمّد الباردي رحمه اللّه.
للرّجل عليّ فضل لابدّ من الاعتراف به. فقد درّسني أدب الرّواية بعد أن تدخّل لفائدتي بطلب من قريبة لي صديقة زوجته في نُقلة اضطراريّة من كلّيّة الآداب بمنّوبة إلى نظيرتها بصفاقس بعد أن توفّي والدي طيّب الله ثراه وجازاه عنّي كلّ الخير تحت الأرض ويوم العَرض من أجل أن أكون قريبا من أمٍّ حنون وكنّةٍ مثاليّة وأخٍ مريض كي أعين شقيقي الأكبر زوج الكنّة الغائب كدْحا في حضائر البناء ب"مدينة الشّموس الدّافئة" من أجل لقمة عيش الأسرة ومصاريف دراستي- شكَر الله جهده وتضحيتَه - ولو بزيارة للبيت آخر الأسبوع أقوم بها وخلالها بما يتوجّب القيام به…
في الرّواية كما في كثير من أخواتها التّونسيّات اللّواتي قرأتُ هذه السّنوات الأخيرةَ وغيرَ الأخيرةِ حضورٌ طاغٍ لصُور جنسيّة تتراوح بين كثيرِ التّصريح وقليلِ التّلميح كأنّ الكتابة لا تتمّ إلّا بها. وهي ظاهرة تُعيدني إلى بيت الشّاعر القديم إن جازت العودةُ:
إِذا كانَ مَدحٌ فَالنَسيبُ المُقَدَّمُ * أَكُلُّ فَصيحٍ قالَ شِعرًا مُتَيَّمُ؟
بطلُ الرّواية التي تبدو قريبة جدّا من السّيرة والسّيرة الذّاتيّة عاشقُ فلسفةٍ بل فيلسوفٌ فرّط في ثروة والده الطّائلة الذي ارتقى إلى بارئه مبكّرا لفائدة أعمامه بأبخس الأثمان، وتنكّر لرغبة أبيه الجامحة في اختيار دراسة الطّبّ منحازا إلى شعبة الفلسفة حيث انبهر- ومعه ربُّ الحكْي في الرّواية - بالفرنسيّ (ميشيل فوكو) ذائعِ الصّيت الذي استقدمه بورقيبة لتدريس الفلسفة في كلّيّة 9 أفريل ووفّر له خطّا أخضر مارس بموجبه كما تقول شهادات مَن عرفه من رفاقه الغربيّين حرّيّة ذهبت به، وهو المصاب بالشّذوذ مند الطّفولة، إلى حدّ استغلال كثير من صبية تونس جنسيّا حيث كان يُقيم في ضاحية سيدي بوسعيد، إذ استغلّ فقرهم وأغدق عليهم الأموال لقاء الاعتداء عليهم بعد العاشرة ليلا في مقبرة المدينة (لعلّ الفعل والزّمان والمكان من مصنوعات الفلسفة . من يدري؟!).
طبعا لستُ ضدّ الفلسفة، حتّى لا يسارع قِصار النّظر إلى اتّهامي بما لا يجب، فهي "أمّ العلوم" منها انبثقت وأشعّت على دنيانا ونقلتْها من ظلمة إلى نور (لست أدري ما صلة قُبح خلُق هذا الفيلسوف بمنطوق آبائنا الذين لم يعرفوا المدرسة والمعلّم يوما بهذا المصطلح بقلب مكانيّ للحروف: "الفَلْفْسَة" ! ). لست ضدّها لكنّني لا أجد موجبا لغفلة الدّولة عن فعل موحش في حقّ أطفالها زمنئذ يأتيه "قدّيسُ" علمٍ ومعرفةٍ مدفوعا بمرض نفسيّ وبعقليّة مستعمِرٍ وبشهرة واسعة، ولتراخي المنظّمات الحقوقيّة المحلّيّة والدّوليّة، وما أدراك ما المنظّمات الحقوقيّة ! حتّى اليوم عن المطالبة بإثارة بحث للتّحقيق في جرائم فوكو وانتهاكاته التي لا تسقط بالتّقادم والتي اعترف بها الكاتب الفرنسيّ الأمريكيّ (غي سورمان) وهو يُقدّم كتابه "قاموس من الهُراء" Dictionnaire du Billohit الذي عرض فيه مساره الفكريّ وأهمّ الشّخصيّات التي عاصرها وعايشها. فقد تطرّق إلى الميول الغِلمانيّة لميشيل فوكو (1926 - 1984) قائلا:" هذا الشّخص فظيع.. ما ارتكبه من انتهاكات في حقّ أطفال تونسيّين أمرٌ شاهدتُه. كان غلمانيّا.. وأنا نادم لأنّي لم أُدِنْ تلك الأفعال المُشينة وقتئذ.. إنّها أفعال قبيحة جدّا..." كما أفصح عن أسفه لعدم إشعار الشّرطة بتصرّفات فوكو أو التّنديد بها في وسائل الإعلام مؤكّدا أنّه التقاه في عطلة عيد الفصح سنة تسع وستّين وتسعمائة وألف في مدينة سيدي بوسعيد مرفوقا بثلّة من أصدقاء بينهم ثلاثة صحفيّين كانوا عارفين بممارساته الشّاذّة بيْد أنّهم اختاروا الصّمت والتّكتّم لأنّ الرّجل كان "إلاه" الفلسفة !
ليس ميشيل فوكو إلّا مثالا لمشاهير بهَروا العالم بقناع جميل يختفي وراءه وجهٌ موغِل في الرّداءة والبذاءة والانحطاط الحيوانيّ.. وليست الجهات التي استغربَ (غي سورمان) من سكوتها عن الجريمة بمهتمّة بما حدث للأطفال ويحدث (إلّا إذا تعلّق الأمر بتصفية حسابات فكريّة أو سياسويّة) أو هي غير قادرة أصلا على ذلك مادام الأمر متّصلا ب"العكري" الصّانعةِ المرضِعة أطال الله عمرها وأبقاها لنا ذُخرا..! وليست الفلسفة كغيرها بمنأى عن أن يتعاطاها عديمو الأخلاق رغم إلحاحها على الأخلاق وعلى حاجة المجتمعات البشريّة إليها منذ بداياتها اليونانيّة…
ما أؤمن به عميقا أنْ لا قيمةَ لعلم أو فنّ يوضع في وعاء مثقوب ! ولا حاجة البشريّة بإبداعاتك ونبوغك ما دمت فاقدا لمقوّمات الإنسانيّة.