اعترضني هذا الكلام على أساس أنّه مثَل إنجليزيّ. وأيّا كانت درجة صحّته نوعًا ونسبةً ومحتوًى فأنا لا أجد في نفسي وذهني غير الدّافع إلى تبنّيه. ولك طبعا أن تتّفق أو تختلف…
ما يعنيني من هذا الكلام جملتُه الأخيرة. فرداءةُ مستعمرتنا القديمة المتجدّدة (للاستعمار هذه العقودَ الأخيرةَ مفهوم آخر غير التّقليديّ الذي يقف عنده البسطاء أو الوكلاء المتحيّلون العاملون على طمس الحقائق ضمانا لارتباطاتهم بالمرحاض) لا تخفى على أعمى وأصمّ بل ومجنون. موقعُها في محيطها الأوروبّيّ والغربيّ متخلّفٌ متأخّرٌ على جميع الصُّعُد علمًا ومعرفةً واجتماعًا وتصنيعًا وحقوقَ إنسانٍ…
لقد أوغلت في الابتعاد عن مبادئ ثورتها الشّهيرة (1789)، ثورة الأنوار التي أشعّت على جاراتها وغير جاراتها فأخرجتها من ظلُماتها بفضل فلاسفة ك"مونتسكيو" و"فولتير" "وديدرو" وغيرهم المبنيّة على ضرورة تحرّر الفرد والجماعة من الشّموليّة وحكم الفرد وعلى وجوب هيمنة القِيم والمُثل الأخلاقيّة في الحياة العامّة. وتاريخُها الاستعماريّ المباشر مليء بالممارسات المشينة التي وقف عندها المؤرّخون بعقول مذهولة، فضلا عن حاضرها المبتزّ المستغلّ لمستعمراتها ابتزازا واستغلالا وحشيّيْن يذهبان إلى العظْم.
لم أستغرب مع المستغربين شذوذَ فقرات احتفاليّتها المفتتِحة لأولمبياد باريس التي تدور فعاليّاته هذه الأيّام في عاصمتها المتّسخة مبنًى ومعنًى. فقد أتت فرنسا "المعظَّمة" من الرّداءة ما لم تأتِه سابقاتُها من البلدان التي استضافت أحداثا رياضيًّة عالميّة كبرى: جيوشٌ من فئران في حجم القطط غدرت من مجاري الصّرف الصّحّيّ تحت برج إيفيل الشّهير وغيره من المعالم العريقة وغير العريقة الرّامزة وغير الرّامزة (غفَر الله لمن أحاط هذه الكائنات العفِنة المهدّدة لصحّة الضّيوف عِلمًا بالحدث العالميّ )! وتسرّبٌ لمياه الصّرف الصّحّيّ إلى نهر السّين الذي منع السّبّاحين المشاركين من إجراء تدريباتهم !، وتهيئةُ أسرّة للّاعبين من كَرتون في غرف سَعتُها مترٌ في متر مؤثّثة بمِروحة ..!
انحرافّ مادّيّ وأخلاقيّ بلغ مداه بمشاهد العراء الفاضحة ولوحات الاستعراض المستهتِرة بالأديان بما في ذلك المسيحيّة دين المجتمع الفرنسيّ الحاضن لهذا الحدث الرّياضيّ. مشاهد ولوحات فرجويّة لقيت استهجانا مكثّفا افتضح به ومعه الوجهُ القبيحُ لهذه الدّولة التي تلتفّ حولها أصابعُ الأخطبوط الماسونيّ وتذهب بها بعيدا عن كلّ معنًى إنسانيّ مُوجب بالمفهوم الرّياضيّاتي للعبارة. قد يكفيك لتفهم تغلغل الماسونيّة في هذا البلد الأوروبّيّ الصّفيق أن ترى رئيسا شابّا على قَدْرٍ من الوسامة محترَمٍ يرتبط بعجوز شمطاء لا تحرّك سواكن ذُكور العجماوات فقط لأنّها من أسرة ذات شأن في هذا الفسطاط الفكريّ المذكور ولأنّ زواجه منها اعتُبر شرطا أساسيّا لوصوله إلى كرسيّ الرّئاسة في عُهدته الأولى والثّانية وربّما الثّالثة، فهو صاحب عبارة: "وِلايتان فقط في الرّئاسة هُراءٌ لعينٌ"!)…
البصماتُ الماسونيّة لم تكن خافية على رجال الكنيسة المسيحيّة وعموم معتنقي النّصرانيّة الذين احتجّوا بقوّة على ما سُمّي بهذه المناسبة الإساءةَ إلى "الأديان" في صيغة الجمع. ولست أدري لِمَ هذا التّجميعُ الذي لم نره عندما طلع علينا بعضُهم بالرّسوم المسيئة للرّسول الأكرم وبعضُهم الآخر بحرق المصحف الشّريف، فنحن لم نرَ زمنئذ ولم نسمع من الكنيسة وقساوستها- دَعْك من عموم النّاس في هذا البلد وفي عموم أروبّا الاستعماريّة - ولو عبارةَ شجْب وتنديد وكأنّ الإسلام ليس من الدّيانات السّماويّة وليس له أتباع !!!
هذه البصماتُ الماسونيّة المشار إليها مرفوقةً بالانحطاط الفرنسيّ الأخلاقيّ المروّع لا يكفي الحفلُ الاستعراضيّ غير المسبوق في رداءته ووقاحته وقبحه لتلخيصه إذ تُضاف إليه حقائق مؤلمة أخرى في غاية البذاءة والاعتداء على الضّوابط البشريّة من قبيل حضور "رياضيّين" و"رياضيّات" من حمَلة الزّيّ العسكريّ الصّهيونيّ شاركوا في الالتذاذ بقتل المدنيّين في غزّة وتمزيق أجساد مدنيّيها الأبرياء، وما جاء على صفحة مونتي كارلو الدّوليّة من خير أكتفي بعنوانه: "باريس "مدينة الحبّ".. القرية الأولمبيّة ستوفّر 300 واقي (هكذا) ذَكَريّ للرّياضيّين" (مفهوم فرنسيّ للحبّ إباحيّ موغل في الحيوانيّة مخجِل سافرٌ !).
ما يؤسفني أنّ هذا البلد المنحطّ ما يزال عن طريق نُخَبٍ مأجورة قابضة متبجِّحة وقِحة يشدّنا بحبْل سُرّيّ تعجز عن قطعه أمهرُ القوابل، فيتدخّل في تفاصيل حياتنا ودقائق أمورنا، وأنّ كثيرا منّا يعُدّه مثالا وقدوة ويدمّر بمجلوباته تربيتَنا وتعليمَنا واقتصادَنا واجتماعَنا وثقافتَنا المحلّيّةَ تدميرا إن أشرتَ إليه مجرّد إشارة كِيلتْ لك التُّهمُ الجاهزةُ جِزافًا: ضربُ مدنيّة الدّولة، معاداة الحداثة، الرّجعيّة، التّخلّف، الظّلاميّة.. وما إلى ذلك من مخزون رثّ وقِح وقاحةَ المشغِّل والمشغَّل مجتمعيْن.