سيظلّ الرّجل ورفاقه أحياؤهم وأمواتهم وَصمةَ عارٍ في جبين إخوة يوسف

"البرْكة فيك في إسماعيل هنيّة"... جملةُ تعزيةٍ شعبيّة تونسيّة دارجة جاءتني من شقيقي عبر سمّاعة الهاتف المحمول قريبا من منتصف نهار الأربعاء. لم أكن على علم بعدُ بنبإ استشهاد رجلٍ نعتبره منّا وإلينا إذ هو وإخوته ورفاقه في الجناحيْن السّياسيّ والعسكريّ لحركة حماس وبقيّة فصائل المقاومة يقفون -هكذا نؤمن عميقا- بوسائل بسيطة وبطون خاوية وأرجُل حافية وقلوبٍ فائضة بالإيمان والاحتساب والصّبر والاصطبار والمرابطة على تخوم ما بقيَ من شرف أمّة أهرق أغلبَه خاذلٌ وبائعٌ وعميل منبطح بلا سبب ومشوَّهُ تديّنٍ من مشائخ السّلطان جماعة الفِرق الضّالّة المُضِلّة المصنوعة بأموالٍ وتدابيرَ قذِرة قذارةَ القمصان الجرّارة واللّحيّ المرسَلة (يتبعهم مريدوهم الذين فشلوا في تحصيل أدنى علوم الدّنيا والدّين معًا تبعيّة عمياء) ومنحرِفُ تأدلُجٍ حَدثوت (نسبة إلى الحدث بمعناه الفقهيّ ،وبنوعيْه الأصغر والأكبر !)…

لم أهتزّ للنّبإ كبيرَاهتزاز. حوقلتُ واسترجعتُ وقلتُ لمهاتِفي ما مفادُه أنّ لكلّ أجل كتابا وأنّ كلَّ نفس ذائقةُ الموتِ، ثمّ أعدتُه إلى قافلة أهل المغدور وإخوة جهاده الذين سبقوه على درب شهادة يروْنه بوضوح وجلاء منذ الطّفولة على خلافنا وسائر المنتسبين إلى الإسلام من ساكنة الكرة الأرضيّة الغارقين في اللّهاث وراء المعيش اليوميَّ كالدّوابّ.

تذكّرتُ أنّ الفقيد قد وضع حياته على كفّه منذ انخرط في سبيل المقاومة بل لعلّه استعجل الشّهادة ليلتقيَ ربَّه راضيًا مرضيًّا. عدتُ إلى إسماعيل الذّبيحِ في القرآن الكريم أبني بيني وبين نفسي تشبيهًا جعلتُ بمقتضاه القضيّة المركزيّة، التي وشّح الكاذبون طويلا بِشالِها الفلسطينيّ صدورَهم الخاوية اللّعينةَ في محافل الكذب والنّفاق والغَلَط والمغالطة، النّبيَّ إبراهيمَ عليه السّلام ونزّلتُ القائد التّقيّ النّقيّ أبا العبد منزلة إسماعيل الذّبيح الذي أُمِر فأسلم وأطاع دون أن يتداركه الكبش إذْ لا كبشَ في زمن النّعاج.

لم يكن إسماعيل هنيّة تقبّله الله مع الشّهداء والصّدّيقين أوّل المطهِّرين بدمائهم الزّكيّة طريقَ تحرير فلسطين وقدسها المبارَك، ولن يكون آخرهم مادامت "إسرائيل"، محظيّة أمريكا وجزءٍ آخر من بلدان غربيّة كان بعضُنا يعدّها موئلا للحرّيّة والدّيمقراطيّة وحقوقَ الإنسان، تفعل ما تريد دون رقيب أو حسيب، وما دام في عَرب الذّلّ والمهانة والانبطاح دولٌ خسيسة نجِسة تبذل الغاليَ والنّفيسَ لخدمة الكيان الغاصب من أجل قلع جذور المقاومة منذ "كامب ديفيد" بل قبله، وإنِ ادّعى بعضُها نقاوة المومس تمدح العفّة والنّقاوة وتحاضر فيهما بعيْنيْن وقِحتيْن ولسان طويل…

قفزتْ إلى ذهني عبارةٌ من التّاريخ المضيء: "أخذ الرّايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخذها جعفرُ فأصيب، ثم أخذها عبدُ الله بنُ رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمْرة ففُتح عليه".

ازدادت خفّة إحساسي بالمَصاب والمُصاب أكثر، وقلت في دخيلتي: متى أوقفت هذه الحركةُ وأخواتُها المجاهدات في غزّة بسبب استشهاد قائد مهما كان حجمُه مسيرةَ مُقارَعة أبشع احتلال في تاريخ البشريّة؟ وهل غادر أبناؤها الأشاوسُ ساحة الشّرف لفقدانهم أسماء ثقيلة الوزن كعزالدّين القسّام وأحمد ياسين والرّنتيسي وغيرهم من حمَلة راية الكفاح السّياسيّ والعسكريّ على حدّ السّواء؟ فالرّحِمُ خِصبٌ مِعطاءٌ والمدرسةُ عريقةٌ ضاربةُ الجذور في مقارعة عدوٍّ بالتْ عند قدميْه جيوشٌ نظاميّة عَرْبجيّة جبانةٌ…

تركتُ الفقيد وعُصبتَه المشرِّفة، واستسلمتُ لحشد من أسئلة متناقضة:

هل تكون إيران قد فعلتْها وباعت الرّجل في سوق النّخاسة السّياسيّة التي لا تحكمها المبادئ والأعراف والنّواميس والضّوابط؟ كيف تُعجزُها حمايةُ ضيفٍ يعتبره الكيان اللّقيط واستخباراتُه المسنودة تخطيطا وإنجازا بكثير من مثيلاتها في دول الغرب والشّرق معا صيْدا ثمينا؟ ما الذي أصاب بلدا مصنِّعا كإيران حتّى يعجز عن حماية علماء مشروعه النّوويّ الذين قُتلوا على أرضه؟ كيف ينتهي رئيسه تلك النّهايةَ المأساويّةَ إذا لم يكن وراءها صراعُ أذرعٍ داخليٌّ؟ هل ستردّ على الضّربة المهينة التي تلقّتها باغتيال القائد السّياسيّ لحركة حماس التي اتّخذت قرار المبادرة لحرب مع العدوّ استنزفته فيها رغم كمَّ التّأييد اللّوجستي وغير اللّوجستيّ المتلقّى من عاهرات عواصم الغرب والشّرق مجتمعات أم ستظلّ عند القول لا تغادره؟ لماذا لم تنفّذ وعدَها بالرّدّ على اغتيال أبنائها وذهب تهديدها أدراجَ الرّياح؟ لماذا تصل الخساسةُ ذُروتَها لدى من استبدّ بهم عشقُ إيران المفاجئ من أدعياء عروبتنا لدعمها نظام بشّار في دمشق الشّام فتغمر قلوبَهم الخرِبةَ الفرحةُ باغتيال هنيّة؟ ألم يترك ما جرى له جُرحا عميقا في جسد هيبة معشوقتهم أكانت بريئة من دمه أو لم تكن..؟

سيظلّ الرّجل ورفاقه أحياؤهم وأمواتهم وَصمةَ عارٍ في جبين إخوة يوسف الذين ألجؤوهم بخذلانهم وبإغلاق أبوابهم دونهم إلى فارسيّ وتركمانيّ…

كفى كلَّ متشفٍّ من عرب العار المركَّب تناقضًا وتهافتًا مفضوحيْن يلخّصه بيت الشّاعر:


ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له: إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء.

رحم اللّه هنيّة ومَن سبقوه ومَن سيلحقونه من إخوة الكفاح، وأراح تشييعَ جثمانه الطّاهر من قادةٍ عربٍ لم تترك جنائزُ المسؤولين الصّهاينة من دموع مآقيهم له شيئا يُذرف لوداعه وفي وداعه !

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات