وارفةٌ وعملاقةٌ هي شجرةُ الرّاحل الشّهيد بإذن اللّه إسماعيل هنيّة. لكنّها لم تحجب عنّي مرافِقه الأمين وحارسَه الشّخصيّ "وسيم أبو شعبان" الذي انتهى نهايتَه الاستثنائيّةَ بعيدا عن الأهل والدّيار في بلاد فارس يستجديان دعما لقضيّة آمنَا بها عميقا بعد أن طرَقا أبواب إخوةٍ عرَبٍ لئامٍ أُغلِقتْ دونهما خوفا من الكيان اللّقيط أو تواطؤًا معه في السّرّ والعلَن…
قرأتُ سيرة الفتى فألفيتُها زاخرة بالنّضال حُبلى بالبطولات ضدّ هذا العدوّ الذي حبا عند أقدامه الغارقة في وحَل غزّةَ الإباءِ والصّمودِ "زعماءُ" دول عربيّة خسيسة رخيصة جعل أفضلُها من قضيّة "شعب الجبّارين" قميصَ عثمان الذي به يتاجرون على حدّ عبارة الشّاعر الدّمشقيّ نزار قبّاني رحمه الله.
وسيم أبو شعبان خرّيجُ كلّيّة الشّريعة والقانون التّابعة للجامعة الإسلاميّة بالقطاع. كان قائدا لإحدى نُخَب القسّام. تولّى صحبة مجموعة من رفاق كفاحه عمليّةَ مداهمةِ موقعِ "ناحل عوز" العسكريّ الصّهيونيّ سنة أربعة عشر وألفين وقضوْا على جميع من في البرج العسكريّ المحصّن من جنود الاحتلال بعد التفافة مُحكمة من الخَلف.
هو من مواليد 7أكتوبر 1988 في غزّة (لهذا اليوم والشّهر موقعُهما المقدّس في مسيرة المقاومة العظيمة). أبٌ لأربعة أبناء. عمل قبل أن يتولّى مرافقة أبي العبد مرافقا للقياديّ الشّهيد سعيد صيام الذي اغتالته يدُ الغدر الإسرائيليّة بغارة جوّيّة سنة تسع وألفين (عدوّ جبان يعوّل باستمرار على تفوّقه الجوّيّ).
الحقيقةُ أنّ ما أرانيهِ من خلف الشّجرة العملاقة تصريحٌ لأرملته Made in Palestine اعترضني في أحد أزقّة الفضاء الافتراضيّ حبَس أنفاسي وزادني احتراما وتقديرا للمرأة الفلسطينيّة التي قلّ نظيرُها على الكرة الأرضيّة إذ تودّع الزّوج والابن والأب والأخ والعمّ والخال بفرحة لا يعرف سرّها سواها من نساء المعمورة.
تقول هذه السّيّدة النّاشئة في رحاب القرآن الكريم والتي لم يجفّ دمُ زوجها الطّاهر في قبره القطَريّ برباطة جأشٍ مخجلةٍ لنا معشر الممسكين بتلابيب الدّنيا الجاثين على رُكَبنا نسألها عطاءً فانيًا مثلها:
قبل أن يغادر البيت أمسك ابنَه الكبيرَ وقال له:" يا ابني، يا أنس، أنا أدَع البيت وأمّك وإخوتَك أمانةً في عنقك.. زوجي استُشهد والقرآن بين يديه.. استُشهد والقرآن ملتصقٌ بصدره.. الحمد لله.. كان يسبّح ويستغفر. أبو العبد إسماعيل هنيّة كان يراجع معه وِردَ القرآن يوميّا. الحمد لله، احتسبتُ وسلّمتُ ورضيتُ وشكرتُ الله على أن وهبني لزوجي نهايةً عظيمة" !
ما أشدّ صَغارَنا أمام هؤلاء القوم الأتقياء الأنقياء الأصفياء طلبةِ آخرةٍ يروْنها قريبة ونراها بعيدة، عشّاقِ موتٍ يروْن فيه لقاء مع خالق الكون وما فيه ومن فيه ونراه مصابًا جلَلا وكارثةً ثقيلةً. قومٌ يُعِدّون للنّهاية المحتومة خيرَ الزّاد ونُعدٌ لها أرذلَه بِسِباحتنا المستدامة في جافِّ الينابيع.
اللّهمّ لا تُذهب دماء شهدائهم هدْرا، ولا احتسابَ أحيائهم سُدًى. اللّهمّ ثبّتهم على طريق الشّهادة، وسدّد رمي مجاهديهم، وآمن روعتهم، وجازهم عنّا وعن خذلاننا المبين خير الجزاء. إنّك وليُّ ذلك والقادر عليه.