قراءة في تمرير عُهدة حماس

كتبتُ سابقا حول قرارِ القيادة العسكريّة الميدانيّة لحركة المقاومة حماس المبكّر غداة ملحمة 7أكتوبر المقدَّسة [حضرْتني عبارتا "الخالدة" و"المجيدة" لكنّني راعيتُ حقوق "براءة اختراعهما" لأصحابهما جماعة تطريز الكلامْ على مدى سبعين عامْ (شيءٌ من سَجْع هههه)، وفررتُ من شؤمهما الذي لم يورّثنا غيرَ الضّياعِ والهَوانِ وعبادةِ الأشخاص وتِيهِ قضيّةِ شعبنا الفلسطينيّ المسكين في أزقّة الكذب والنّفاق والكلام المصقول المستنفِد للوقت والجهد والفعل المُثمِر الخلّاق]، قرارِ وضع مُدخَلات المفاوضات ومُخرجاتها بين يديها لأوّل مرّة منذ بداية هذه المعركة المظفَّرة مع العدوّ الصّفيق النّابت مع البَقْل.


…

لذلك لم أستغرب مع المستغربين اتّفاق قادة الحركة على تسليم العُهدة ليحي السّنوار مهندسِ الملحمة المذكورة خلفا للفقيد المغدور ذي التّاريخ النّضاليّ المشرِّف أبي العبد إسماعيل هنيّة رحمه الله وأكرمه وألحقه بالشّهداء والصّدّيقين، وذلك لأسباب كثيرة تجمع بين الذّاتيّ والموضوعيّ:

• السّنوار عارفٌ تمام المعرفة بتفاصيل المعركة الميدانيّة الرّاهنة التي خلقت لأوّل مرّة ما يُسمّى "توازن الرّعب" مع العدوّ، بل أمالت كفّة الرّعب إلى جهة الاحتلال الذي اُستُنزِف على أكثر من صعيد: استُنزف في موارده البشريّة (آلاف الجنود والضّبّاط بين قتيل ومشوَّه بدنيّ ومريض نفسيّ خارجٍ عن الخدمة بفعل كمائن المقاومة وبأس فتيانها الطّالعين كالعنقاء من تحت الأرض) حتّى أضحى يبحث عن مجنَّدين في الدّاخل والخارج ويستدعي جيش احتياطه ويحبّر إعلانات طلب التّجنّد من جميع أصقاع العالم، واستُنزف في عُدّته المقبورة في رمال غزّة من دبّابات كان يعتقد أنّها سيّدة دبّابات العالم فضلا عن الآليّات والجرّافات وحتّى الطّائرات المسيَّرة ممّا استدعى جسورا جوّيّة أمريكيّة وأوروبّيّة وحتّى عربيّة داعمة بالأسلحة والخبراء وصفوة عسكريّي الميدان، واستُنزف في استقراره الاجتماعيّ بزخْمٍ من خوف مواطنيه الذين طالتهم صواريخُ المقاومة وأخواتها السّاندات في جنوب لبنان واليمن فخلَت المطارات وعُمّرتِ الملاجئ، وبالاحتجاجات الشّعبيّة اليوميّة المشتبِكة مع الشّرطة سواء تلك المطالِبة بالإسراع بإبرام صفقة تبادل الأسرى مع حماس لاستعادة المحتجّين أهاليهم أو تلك التي يخوضها "الحريديم" رفضا لتجنيد أبنائهم رُغما عن قرار المحكمة القاضي بذلك، واستُنزف اقتصادُها بالأثمان الباهضة لمِيرْكافاتها التي لم تُنفق المقاومة في سبيل تدميرها سوى قذائف غير مُكلفة صُنع أغلبها في ورشاتها المحلّيّة، وبتعطّل إنتاجها النّاتجِ عن عدّة عوامل من بينها اضطرار خبراء المصانع المصدِّرة من أبناء المؤسّسة العسكريّة المتقاعدين إلى الالتحاق بجبهة القتال ضدّ أشاوس حماس التي جرّت هذا العدوّ اللّقيط إلى حرب كشفت أنّه نمِرٌ من ورق…

• السّنوار، وهو دون سنّ السّادسة والعشرين، اصطفاه الشّيخُ المؤسِّس المُقعَد أحمد ياسين، دون قيادات الحركة الأوائل، لتأسيس جهاز أمن داخليّ للحركة المقاوِمة ("مجد") لِما رآه فيه من مواصفات تحدّث عنها لاحقا رفاقُه في معتقلات الكيان الصّفيق المقيت…

• هو، كما يروي هؤلاء الرّفاق، استراتيجيُّ التّفكير، عميقُه، قويُّ الشّخصيّة، يُجيد الإدارة (اختاره السّجناء رئيسا للهيأة القياديّة العليا لأسرى حماس في معتقلات العدوّ)، خَدومٌ بشكل لافت، متواضع غايةَ التّواضع، متقنٌ بالغَ الإتقان للّغة العِبريّة ("من حفظ لغة قوم أمِنَ شرّهم")، تعمّق شديدا في معرفة الفكر الصّهيونيّ بإدمان قراءة الجرائد العِبريّة والكتُب الصّادرة عن المراكز الاستراتيجيّة الصّهيونيّة في محبسه الطّويل (24 عاما بتمامها وكمالها).

• بعد تحرّره تمّ انتخابه عضوا في قيادة الحركة. لم يطلب استراحة، ولم يفكّر في الزّواج كما كان منتَظرا بل أختار أن يستلم أصعب الملفّات أعني الملفَّ العسكريّ الأمنيَّ تدفعه قناعاتٌ داخليّة راسخة من قبيل تحرير الأسرى وإنقاذ الأقصى واستعادة الأرض السّليبة…

• أسهم بشكل فعّال في تقارب الحركة مع أخواتها المقاوِمات بما في ذلك "فتح"…

• في انتخابه خلَفا لأخيه إسماعيل هنيّة رسالةٌ موجّهة إلى العالم وإلى بني صهيون وأذنابهم من عرب التّصهيُن مُفادها: ما بدأناه في 7 أكتوبر لن ينتهيَ إلّا إلى حياة تسُرّ الصّديق أو موت يغيظ العِدا ! في هذا الانتخاب قرارٌ حاسم اُتّخِذ لمواجهة التّطرّف الصّهيونيّ الذي يمارسه نتانياهو وبن غفير وغيرهما بشخصيّة صعبة المراس لا ترضخ ولا تهادن ولا تَلين ولا تقدّم التّنازلات ولا تقبل الخزعبلات…

• لم يعد، أمام تعنّت العدوّ رغم خسائره وضغوط عائلات أسرى حماس عليه، وأمام التّضييق الممنهج على القادة السّياسيّين في عواصم إقامتهم القليلة من قِبلها ومن قِبل أمريكا و"إسرائيل"، وأمام غياب ضمان أمنهم (يكفيك ما حصل لإسماعيل هنيّة أَقتلَه العدوّ أم تولّت أمرَه إيران المستضيفة) من خيار غير تولّي قائد من الدّاخل زمامَ الأمور، فالدّاخل أضحى أكثر أمنا وأمانا من عواصم إمّا مخترَقة أو متاجِرة. زدْ على ذلك أنّه ما عاد للمفاوضات مع عدوّ كاذب مخادع لئيم خسيس من جدوى أو موجِبٍ إذْ أثبتت الوقائع أنّه لا يفهم سوى بصوتِ البندقيّة. وللبندقيّة سِنوارُها المِقدام وفتيتُه مبتدعو "المسافة صفر" التي حيّرت العالم في زمن القرية الكونيّة.

"سمّعْلي أهل النّفاقْ… بايِعْنا رْجالْ الأنفاقْ"… هكذا ردّد متظاهرو أُردنّ العمالة التّاريخيّة المستدامة في بعض وقْفاتهم المؤيّدة لغزّةَ العِزّة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات