خلال طفولتي كانت الحلوى سيّدةَ زمانها، وكان أكثر أنواعها إغراءً لي ولِلِداتي يُسمّى "حَيّ يْنڨّز". هو عبارة عن قطعةٍ كرويّة الشّكل صغيرة ملفوفة في غطاء من ورق البلاستيك الدّقيق الشّفّاف مشدود من فوق إلى خيط مطّاط رقيق نمسكه من أعلاه ونحرّك أيدينا فتشرع القطعة في القفز نزولا وصعودا. كان ذلك يوفّر لنا متعة لا تضاهى حتّى أنّنا لا نُقبل على الحلوى المغطّاة نأكلها إلّا إذا انقطع عنها الخيط المذكور بفعل قوّة تحريك عفويّة زائدة عن اللّزوم…
أعادني إلى هذه السّنوات الخوالي وإلى هذا النّوع من الحلوى السّياسيُّ الإعلاميّ الكاتبُ الصّحفيُّ مصطفى بكري ذو الخلفيّة "العروبيّة" الحيُّ القافزُ النّاطُّ العاملُ لرزقه وقناعاته الفكريّة "المنڨِّزة" كلَّ آلةٍ. فقد تابعتُ له منذ يومين حوارا صحفيّا يتحدّث فيه بانكسار ظاهر عن طرده من قناة "صدى البلد" المملوكة لرجل الأعمال وعضو البرلمان المصريّ القريب جدّا من الرّئيس المنقلب عبد الفتّاح السّيسي محمّد أبو العِينين (كثيرا ما مثّل مصطفى بكري عينَه الثّالثة المخفيّة !).
هذا الطّردُ أو الاستغناء عن الخدمة يُذكّرنا بقصّة جزاء سنمار المعروفة في تاريخ العرب البعيد: استدعى الملك النّعمان سنمار الرّوميّ وكلّفه ببناء قصر ليس له مثيل فطارت أحلام سنمار وآماله في عطيّة ملِك العرب بعد أن يبنيَ له القصرَ الأعجوبةَ. لمّا انتهى سنمار من بناء القصر الذي سُمّي بالخورنق ولقيَ إعجابَ النّاس لفرط حُسنه وبهائه جاء النّعمان ليُعاينَ الإنجاز السّحريّ، فاستعرض القصرَ وطاف بأرجائه، وبعد محادثة قصيرة مع سنمار، أمر رجاله بإلقائه من أعلى القصر فسقط المسكين قائلا وهو يتّجه إلى حتفه: "جزاني لا جزاه الله خيرًا. إنّ النّعمان شرًّا جزاني. رصصتُ بنيانَه عشرين حَجّة ولمّا أتممتُه عنه رماني".
لقد أنفق صديقُنا مصطفى بكري عمره في تشييد أجمل قصور دكتاتوريّات مصر المسلّحة بعمله الصّحْفجيّ المسموع والمرئيّ والمقروء، ولعَق أسفلَ أحذية العسكر حتّى تآكلت فتعرّت أرجلُهم ولامست التّراب... لقد طبّل للأنظمة العسكرجاتيّة قديمِها وحديثها، ولثَم راكعا في صورة شاهدها الأعمى والبصير يدَ جمال مبارك الذي تلاسن معه لاحقا وكشف نفاقَه ونعتَه بالمريض حتّى سارع "البكري" بتقديم شكاية في نجل "ريّسه" السّابق للنّائب العامّ لأنّه فضح تناقضه وتهافته ونهجه الذي يلخّصه مثَلنا التّونسيّ الدّارج: " الله يُنْصرْ مِنْ صْبَحْ" حينما هاجم مِن على منابره الإعلاميّة المتاحة والدَه الرّاحلَ. كما كتب وقال في خصوم فكره وفكر وليِّ نعمته وأسياد وليّ نعمته ما يُرضي نُعمانَه !
خذ لك مثالا لا حصرا، فالحصر لا يستقيم مع طول اشتغال هذا البوق الإعلاميّ الذي يعمل بجِدّ ووفاء نادريْن، مقالَه المطوَّل الصّادر في "بوّابة أخبار اليوم" بتاريخ 11أوت 2023 (ما بالعهد من قِدم) والمُعنونَ ب"اعتصام رابعة حقائق وشهادات": "مرّت عشر سنوات على فضّ اعتصام رابعة المسلّح [مسلّحون وينتهون مَشويّين في خيامهم يا رجلًا لا يستحي؟! ]، ورغم ذلك لا تزال أكاذيب جماعة الإخوان مستمرّة [وحدها أكاذيبك انقطعت سريعا!]، زيّفوا الحقائق وحوّلوا من "رابعة" مظلوميّة جديدة وراحوا يندبون في كلّ مكان ويدّعون وقائع لا أصل لها [أدام الله أصلك وأصالتك يا عاشق الوطن، يا حامل همومه على كتفيْن لحمُهما من خيْر عرق جبينك وكدّ يمينك!] وينشرون الكذب البواح بعينيه (أنت تنشر الصّدق الصّريح بعينيْ مالِك قناتك التّلفزيّة سالف الذِّكر!).
أفلامٌ تنتَج وعويلٌ ينطلق من فضائيّات مشبوهة (فضائيّة أبي العينين وغيره كالتي رمتك خارج أبوابها باكيا بعيدةٌ عن كلّ شبهة، تُمارس نشاطا حلالا زُلالا وتتأتّي مواردُها من مالٍ طاهر طَهور!)، وسمومٌ تُنشَر على مواقع التّواصل الاجتماعيّ (أنت وأمثالك من صحافيّين ومواطنين تنشرون على هذه المواقع تِرياقا يُذهِب عِلل بلدٍ أضحت جميع أرقامه كارثيّة !) بينما الحقائق تفنّد كلّ هذه الادّعاءات (أظنّك تقصد الحقائق الواردة في اسم برنامجك المتلفَز المسخّر لتنظيف أسيادك وسياساتهم التي أنعشت اقتصاد مصر ومقدرة مواطنها الشّرائيّة عملا بالوعد المشهور:"بُكرة تْشوفوا مَصْرْ" !) وتكشف حقيقة ما جرى وتُحمّل هذه الجماعة الإرهابيّة المسؤوليّة عن سقوط الضّحايا قبل وأثناء وبعد الاعتصام المسلّح [مسلّح بالأرز المفكّه مثلا؟!] في ميدانيْ رابعة والنّهضة".
كما قال في واحدة من حصص برنامجه "حقائق وأسرار" مادحا متكسِّبا: " الرّئيس السّيسي كان حريصا على أن يكون الفضّ سلميّا (أرجّح أنّ ذلك كان بنصيحة منك يا صاحب القلب الإنسانيّ اللّطيف المُحبّ لجميع أطياف شعبه الخالية دخيلتُه من كوليسترول الأيديولوجيا اللّعين !). الإخوان أتوْا بالجثث من مناطق عديدة ليفتروا على الجيش والشّرطة ويقولوا أنّ هؤلاء ضحايا الجيش والشّرطة (هل جاؤوا بها، أيّها العرّيف مالك الحقائق، من مشرحة زينهم مثلا؟ أم من فلسطين المنكوبة التي خذلتْها أنظمتُك غيرُ المدنيّة المتتالية فتركتْها لعربدة شريك اتّفاقيّة كامب دايفد الذي لا يعرف للأعراف والمواثيق طريقا؟!).
لقد آلمتْني، يا حبيبي مصطفى، نبرةُ انكسارك وهبوط معنويّاتك بعد أن كان صوتك وقلمك يدوّيان ب"الحقائق" التي لا يملكها غيرك، وبعد أن عيّنك "الشّيخ" الجليل الشّابّ العرجاني مهرّبُ السّلاح والهيروين وغيرهما من الممنوعات ناطقا رسميّا لما سمّيتموه "اتّحاد قبائل سيناء"، شيخك الذي امتصّ دماء أهل غزّة خلال معركة شرفهم الرّاهنة فألحق به طائلَ الأموال لخزينته التي لا شكّ أنّ بعضًا منها تسلّل إلى جيبك أو حسابك البنكيّ اللٌذيْن كلّما تَورّما أرَياكَ "الحقائق" بجلاء وصفاء نادريْن.
علامَ تقول إنّك لم تغادر بغير بيتٍ يأويك وتمدح أبناءك الشّاكرين نقاوتَك وزهدَك ونظافةَ يدك؟! ولماذا تعلّق على عبارة محاوِرك: "كان بإمكانك أن تستغلّ موقعك لتستثريَٕ" بقولك:"يا ريتْ"؟!
لقد ألزمتُ نفسي غصبا عنها بتصديق زهدك وترفّعك وضعف مكاسبك وبراءة ذمّتك حتّى تملّكني الخوف على بطون عيالك لكنّ عبارة "يا ريت" كذّبتك وذهبتْ بي إلى الحقيقة التي حجبتَها ببراعتك المعهودة كما حجبت حقائق الماضي والحاضر في بلدك بما وُضع على ذمّتك من وسائل الإعلام والاتّصال وبكرسيّك المُريح في برلمان بلدك "المتسيِّد نفسَه" في إطار الدّيمقراطيّة الفاصلة بين السّلطاتِ الثّلاثِ دورتيْن اثنتيْن وفّرتا لك وحدهما ما يُعيل جميع "غَلابَة" مصر المدعوسة [أخت المحروسة وزنًا لا واقعا !].
اِطمئنّ، يا رجل، فلستَ نسخة استثنائيّة في الشّقاق والنّفاق، ففي كلّ بلد من بلدان خريطة العرب أمثالٌ لك بالعشرات بل بالمئات.
نسيتُ أن أشكر التفاتتَك إلى الشّهيدِ إسماعيل هنيّة وحادثةِ اغتياله مِن على منبرك الإعلاميّ المودَّع بحُرقة ووجَع، وإن كانت هذه الالتفاتةُ لا تستحقّ الشّكر إذ هي أضعفُ إيمان "عروبتك" الانتهازيّة. وإن صحّ أنّها سببُ رفتك من قناة نفختَ في صورة مالكها ومالك مالكها بِكيرِك المَصون باستمرار فهي الشّهادة لنا بأنّ مشيرَك المنقلِبَ الحبيبَ والغٌ في دماء شعب غزّة ومقاوميه بطرق شتّى لعلّ أقلّها بشاعةً تكميمُ فيك وأفواهِ غيرِك من أبناء "قلب العروبة النّابض" (غفر الله لصاحب العبارة) عن مجرّد التّرحّم على رجل بذلك الحجم الكبير تأكيدا للولاء اللّامشروط للكيان الغاصب وسعيا بكلّ قُواه وأدواته ووسائله لبقائه على كرسيٍّ جاءت به إليه "إسرائيل" ومدلِّلتُها "الامبرياليّة" بشهادة الصّهاينة أنفسهم.