لم أستقبح في حياتي شيئا أشدّ من نون الجماعة أضيفها ويُضيفها عربُ المهانة ومسلمو المذلّة لعبارة "القضيّة الفلسطينيّة" عقودا من زمننا اللّعين ونحن في ما يُسمّى أوطانًا نأكل ونشرب ونصطاف ونُعمّر المقاهيَ والمطاعم ونتنافس من أجل سيّارة فاخرة وعشيقة خامسة ونتراصّ في حانات الجعّة الرّخيصة و يسير أفضلُنا متثاقلا إلى مساجد الخَواء بقلب تصفّر فيه الرّيح…
ما الذي قدّمناه بهذا الجمْع الكاذب لهؤلاء الواقفين وحدهم غير تعطيلهم عن حسم قضيّة لم يُقدّم لها أشدُّنا إيمانا بها غيرَ دعوات "صالحات" ترتدّ إليه لعجْز صَلاته عن الانتهاء عن مخالفة موانع اللّه في غمرة حياةٍ دنيا بما للنّعت من عميق المعنى؟!
كم رئيسا وملِكا وسُلطانا ووزيرا وبَرلمانيّا وناشطَ مجتمعٍ مدنيٍّ ورجُلَ أعمالٍ باع هذه القضيّة في السّرّ والعلَن ثمّ اكتفى بكلامٍ زبَدٍ يذهب جُفاءً من قبيل "نشجُب" و"نُدين" و"نعبّر عن احتجاجنا" بعد المجازر التي يرتكبها العدوّ في حقّ هؤلاء البشر منذ وعد بلفور المشؤوم؟!
كيف تسمح بلدان عربيّة راعية للمفاوضات أن تدعوَ إلى مواصلة التّفاوض ودمُ رئيس الحركة الإسلاميّة "حماس" الآخذة على عاتقها معركة طوفان الأقصى الاستثنائيّة لم يجفّ؟ أليس في وجوه قادتها قطرةُ ماءٍ واحدة تمنعهم من هذا الطّلب المُشين وتوجّههم إلى سحب سفرائهم من دُويلة الكيان المجرم المتوحّش؟!
بأيّ قلوب واجَه الحكّامُ والمحكومُون في هذه الأمّة المنبطحون القاعدون عن أدنى المواقف المطلوبة شرعا ومروءةً مجزرةَ الفجر الأخيرةَ التي ارتكبها العدوّ الظّلوم الغشوم اللّعين الزّنيم في حقّ مائة أو يزيدون من روّاد بيتٍ من بيوت الله مدنيّين بصاروخ أمريكيّ حوّلهم إلى أشلاء لم يجد أهلهم الأحياءُ المنتظرون حتفَهم غيرَ وضعها في أكياس ذات سبعين كلغراما اختلط فيها لحم هذا بلحم ذاك في صورة يترفّع عنها قصّابٌ يخشى اللهَ في حرفته وحُرفائه فلا يزِنُك شاةً مع خروفٍ ؟!
أَلا تبّتْ قلوبُنا وألسنتُنا ووجوهُنا وسجودُنا وركوعُنا للّه وللكيان الصّهيونيّ حكّاما ومحكومين، مصلّين وغيرَ مصلّين، فقراءَ وأثرياءَ، ذكورا وإناثا... نصلّي خلف عليٍّ ونأكل مع معاويةَ، ونبني بحجر القضيّة جُدُرا خرِبةً من تَثورُجٍ نغتصب به موقعا مدِرّا لمكسب مادّيّ ومعنويّ في سجوننا الكبيرة المدعوّةِ أقطارا.
ما يشرح الصّدر وسط هذه العتْمة وفي هذا الخضمّ الآسن أنّ إخوتنا، (عفوا كيف أسمح لنفسي بالعودة إلى نون الجماعة؟! وهل أنا أهل لها ولمُعجم الأخوّة أستخدمُه مع هؤلاء المخذولين المطعونين؟! ما الذي قدّمتُه لهم غير أضعفِ أضعفِ الإيمان الذي لا يُسمن هُزالَهم ولا يُغني من جوعهم ولا يجفّف دمعة من دموعهم ؟!).
ما يشرح الصّدرَ أنّ أهل غزّة وأبناءَ وطنهم السّليب المشاركين في هذه المعركة المقدّسة التي زلزلت عروش الحكّام العرب المستطيلين زمانا، وهدّدت ثروات رجال الأعمال المستكرشين على حساب ضعاف مواطنيهم، وفضحت الجيوش النّظاميّة وقادَتَها حمَلةَ النّياشين الملوّنة الذين ما خاضوا معركة ولو مع طواحين ريحِ دونكيشوت مرّةً، ما عادوا يعوّلون علينا فاتّخذوا طريقهم دون التفات إلى الوراء عملا بالمثَل الصّميم: "ما حكّ جلدَك غيرُ ظُفرك".
"إسرائيل" أثخنتْها الجراحُ كما لم تُثخنها من قبلُ رغم المدَد المَهول من الغرب والشّرق، من الغريب والقريب... هذه حقيقة لا يطعن فيها إلّا جاحد أو منبطح آملٌ في كسْر عظْم المقاومة الباسلة. لذلك راحت تصبّ جامَ غضبها على المدنيّين العزّل دون أدنى اعتبار للمواثيق الإنسانيّة الدّوليّة التي مازالت سذاجتنا تؤمن بها وتنتظر منها إلجامًا لهذا الوحش الجريح…
إنّ لِما بعد السّابع من أكتوبر غيرَ ما قبلَه بحول اللّه. وإنّ الأمل في الله وفي مقاومةٍ أعدّت لعدوّها ما استطاعت على حدّ عبارة القرآن الكريم. فلْنكفَّ عن تطريز الكلام الذي تراكم حتّى أضحى جِبالا منذ النّكبة، ولْنُقبلْ على معيش العجماوات الذي دأبْنا عليه تاركين هؤلاء الأبطالَ وشأنَهم. وذلك أضعفُ المطلوب.