الحلاوة الأميركية – «الفاطمية» و «الدفرسوار الفلسطيني»

فجأة، ومن عالم الغيب، وبعد الموت السريري للمفاوضات الإسرائيلية – الحمساوية غير المباشرة، أسقطت الولايات المتحدة وعملاؤها المصريون والقطريون بالباراشوت مبادرة لاستئناف المفاوضات في 15 آب / أغسطس. وكان يمكن حتى للأعمى والأبله أن يلاحظ أن المبادرة ، التي فاجأت الجميع في توقيتها، جاءت بعد ساعات قليلة على توعّد الإيرانيين و«حزب الله» برد قاسٍ ونوعي على اغتيال الشهيدين «هنية» و«شكر»، وكخدعة خبيثة لمنع حصول الرد الانتقامي، أو على الأقل تأجيله إلى أجل غير مسمى. وبتعبير آخر: كانت الغاية الوحيدة المباشرة منها هي «أكل حلاوة» بعقول هؤلاء و تبريد جرح الإهانة الذي تعرّضوا له، و تجويف وعيدهم من خلال لعبة تمرير الوقت . ولم يكن بإمكان الإيرانيين و«حزب الله»، من حيث المبدأ، ورغم عدم قناعتي بموقفهم، سوى التجاوب معها كيلا يُتّهما بـ«إحباط المفاوضات ونسفها قبل انطلاقها، وبالتالي تفويت فرصة لوقف المذبحة التي يتعرض لها الغزاويون». أما الجواسيس القطريون فكان لديهم دافع خفي غير معلن للمشاركة في هذه اللعبة الرخيصة والحقيرة، وهي الانتقام من «البعصة الغزاوية» المتمثلة بانتخاب «السنوار» زعيماً لـ «حماس» بدلاً من أحد كلبيها العتيقين «مشعل» و «أبو مرزوق»، كما كان مدير المخابرات القطرية ، الجاسوس «عبد الله بن محمد الخليفي»، وعَد مشغليه الأميركيين والإسرائيليين ، وكما كانت دولته «العديدية» تأمل وتسعى لتحقيق وعدها لأسيادها(1).

ومنذ انطلاقة المفاوضات فعلاً قبل يومين (بغياب «حماس») بدأت واشنطن وجواسيسها المصريون والقطريون يوزعون الأخبار ، تصريحاً وتسريباً، عن «المفاوضات الجادّة والبنّاءة،التي أُجريت في أجواء إيجابية» ، قبل الإعلان عن أن «الفرق الفنية ستواصل المحادثات خلال الأيام المقبلة والعمل على تفاصيل التنفيذ، بما في ذلك الترتيبات لتنفيذ الجزئيات الإنسانية الشاملة للاتفاق، بالإضافة إلى الجزئيات المتعلقة بالرهائن والمحتجزين ...إلخ». ومن المؤكد أنهم سيمددونها الأسبوع القادم إلى أسبوع آخر، وهكذا دواليك، من أجل اصطياد عصفورين بحجر واحد: منع الإيرانيين وحلفائهم من الرد على ما تعرضوا له من إهانات ( أو على الأقل تأجيل ذلك حتى حشد أكبر عدد ممكن من الأساطيل والقوات الأطلسية في المنطقة)، وبالتالي عدم توسع الحرب عشية الانتخابات الأميركية، و منح سواطير «نتنياهو» أطول وقت ممكن لإكمال مذبحته وإنجاز ما لم يتمكن جيشه من إنجازه حتى الآن.

هي اللعبة الأميركية نفسها، لم تتبدل أو تتغير قاعدة واحدة من قواعدها منذ سبعين عاماً حين دخلت واشنطن إلى عالم الصراع العربي – الإسرائيلي خلال العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 عبر الجسر الذي شيده لها «عبد الناصر» (يوم كان أحد صبيانها وأزلامها). ومن يراجع السجلات السياسية والديبلوماسية للمحطات الحربية المفصلية في هذا الصراع (عدوان 1956،عدوان 1967،حرب أكتوبر 1973، عدوان 1982على لبنان، وعدوان 2006 على لبنان أيضاً)، فضلاً عن «اتفاقية أوسلو» قبل ثلاثين عاماً، يكتشف في الحال، إن لم يكن أعمى أو أحمق أو جاهلاً، أنهم يكررون لعبة تمرير الوقت نفسها دون أي تغيير أو تعديل في أيٍّ من قواعدها، بينما يكون الإسرائيليون أنجزوا ما يريدون إنجازه وتحويل الإنجازات إلى أمر واقع على الأرض لا مجال لتغييره أو التراجع عنه. ولعل «أطرف» وأشهر مثال على ذلك (رغم أنه غير معروف خارج الأوساط الديبلوماسية والاستخبارية)، ما حصل في أروقة «مجلس الأمن الدولي» خلال الساعات الأخيرة من حرب أكتوبر 1973.

فعند الساعة 12 و 52 دقيقة من فجر 22 أكتوبر بتوقيت نيويورك،جرى تبني القرار338 القاضي بوقف إطلاق النار على الجبهتين المصرية والسورية مع إسرائيل، ولكن بعد أن حصل ما لم تشهده الأمم المتحدة في تاريخها كله حتى اليوم، حين تحول «المجلس» إلى ما يشبه سيرك للرفس واللبط كما لو أنه اسطبل للحيوانات. ذلك أن التصويت على القرار تأخر أكثر من ست ساعات بسبب خطابات تقريعية وتهريجية وشتائم سوقية متبادلة وعنيفة بين المندوب السعودي «جميل مراد بارودي» (وسنكتشف لاحقاً أنه جاسوس مكلف بذلك) والمندوب الإسرائيلي «يوسف تيكوا»، اللذين كانا على وشك «تبكيس» وصفع ورفس بعضهما البعض خلال الجلسة لولا تعليقها أكثر من مرة من قبل رئيسها(2). فقد طلب كل منهما الحديث 14 مرة ، وكانت كل مداخلة تستغرق حوالي 30-34 دقيقة حسب سجلات جلسة «مجلس الأمن» ذات الصلة بالقرار.

وسنكتشف بعد عشرات السنين على تلك الواقعة أن ما جرى تلك الليلة كان مسرحية حقيرة من إعداد وإخراج مستشار الأمن القومي الأميركي و وزير الخارجية «هنري كيسنجر»، وأن المندوب السعودي «جميل بارودي»( وهو لبناني و صديق و زميل عريق في مهنة الجوسسة للموسادي اللبناني الآخر الشهير «شارل مالك» منذ دراستهما معاً في جامعة بيروت الأميركية في عشرينيات القرن الماضي) كان مطلوباً منه إدخال نقاشات مجلس الأمن في متاهة وتأخير التصويت على القرار قدْر الإمكان من أجل أن يكسب الجنرال «آرييل شارون»، ورفيقه الجنرال « أبرهام أدان»، مزيداً من الوقت يسمح لهما بدفع أكبر قدر ممكن من الدبابات إلى غربي قناة السويس، وإكمال حصار و/ أو تدمير «الجيش الثالث» المصري ومدينتي السويس والإسماعيلية، بعد الفضيحة المهنية والأخلاقية العسكرية التي اقترفها كبير بغال الجيوش العربية، الوغد «سعد الدين الشاذلي» . فقد كانت إحدى مهماته أيضاً تدمير الجيش السوري في الحرب نفسها بالتواطؤ مع «السادات» و وزير الحربية «أحمد اسماعيل علي». (أنا متأكد أن بعض المعاتيه العرب سيحتج على وصف هذا العنصري - الطائفي المقيت بهذا الوصف، لأنهم ينتمون إلى قطيع من الحمقى لا يعرف شيئاً عن هذه الأيقونة العسكرية المصنوعة من الخراء اليابس سوى الهبل والدجل الذي يلوكونه ويجترونه منذ نصف قرن)(3).

في الواقع إن «كيسنجر» نفسه، وعلى نحوٍ بالغ الوقاحة والفجور ودون أي إحساس بالخجل من تقديم نفسه كنصّاب ومحتال وضيع، يورد في الجزء الثالث من مذكراته (سنوات القلاقل، ص 486-487) واقعة شبيهة بها في تلك الفترة، ولكن بينه وبين آخرين؛الأمر الذي يعني أن الخداع والاحتيال كانا دوماً جزءاً عضوياً من طريقة تفكير إدارته كلها وأسلوب عملها . ففي اليوم الثالث من الحرب، 8 أكتوبر، تلقى- كما يقول - معلومات من وكالة المخابرات المركزية واستخبارات وزارة الدفاع الأميركية تفيد بأن موجة الهجوم السوري–المصري بدأت بالانحسار، وأن الإسرائيليين أصبح بإمكانهم شن هجوم معاكس وتحطيم الجيشين كلياً، ولكن الأمر يحتاج إلى يوم أو يومين على الجبهة السورية، وإلى ثلاثة أو أربعة أيام على الجبهة المصرية. ولأنه كان يجري العمل مع موسكو على عقد جلسة لمجلس الأمن في 8 أكتوبر من أجل إصدار قرار بوقف إطلاق النار، نزولاً عند رغبة «حافظ الأسد» الذي أصيب بحالة رعب وانهيار عصبي وأيقظ صديقه السفير السوفييتي «نور الدين محيي الدينوف» بعد منتصف الليل من أجل ذلك، كما يخبرنا السفير نفسه في إحدى برقياته إلى موسكو ، فقد أراد «كيسنجر» أن يمنح الإسرائيليين الفرصة التي يحتاجونها. ومن أجل ذلك اتصل بالديبلوماسيين الثلاثة الكبار المعنيين مباشرة بالأمر، وأبلغ كلاً منهم بما يتناسب ومصالح بلاده. فطلب من وزير الخارجية المصري «محمد حسن الزيات» أن يكون «هادئاً» خلال مناقشات المجلس،ومن مندوب الولايات المتحدة ،«جون سكالي» أن يكون حديثه «فلسفياً عاماً ، لأننا لا نريد بيانات ملتهبة»، بينما طلب من وزير الخارجية الإسرائيلي «آبا إيبان» أن «يسهب ويطنب قدر الإمكان، وأن يضحّي بالبلاغة لصالح الإسهاب والإطناب»، حسب تعبيره. أما المندوب السعودي ، الجاسوس «جميل بارودي»، فكان هناك من يتكفل بأمره لأداء الدور المطلوب منه وإلقاء محاضرة طويلة -كالعادة-عن تاريخ اليهود والصهيونية ... منذ حروب «النبي داود» في القرن العاشر قبل الميلاد حتى يومنا هذا!

في الأدب الشعبي المصري، والعربي المشرقي عموماً (بفضل الدراما المصرية)، تعبير شهير يقول «أكل بعقله حلاوة»( الأصح منطقياً: أكل عقله بالحلاوة). ورغم أن عُمْر المثل أكثر من ألف عام، كما تبين لي، لم أعرف مغزاه و أصله إلا بالمصادفة خلال دراستي البحثية الأكاديمية للتاريخ الاقتصادي – الاجتماعي للدولة الفاطمية و ثورتها البرجوازية المغدورة التي لم تكتمل، وهي - بالمناسبة- أول ثورة برجوازية حقيقية في التاريخ (بالمعنى الماركسي العلمي لمفهوم الثورة البرجوازية والثورة عموماً: الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر، وليس بالمعنى الذي يطلقه بغال «المعارضة» السورية على «هوشة الكلاب» الجعارية التي عرفتها بلادهم منذ العام 2011 ).

وتقول الحكاية الطريفة إن الدعاة الفاطميين، ولأن الدولة كانت تملك وتحتكر المصانع و الوُرَش الحِرَفية كلها تقريباً ، بما في ذلك مصانع المواد الغذائية ، ومنها الحلاوة (وهذا شكل مبكر من أشكال «رأسمالية الدولة الوطنية الانتقالية»)، كانوا يعرضون على الفلاحين والعمال من مختلف الطوائف والمذاهب، أن يزودوهم بالحلاوة كجزء من أجورهم ، مقابل أن يغيّر هؤلاء مذاهبهم ويصبحوا على مذهب الدولة. ولأن الفلاحين والعمال كانوا بحاجة إلى مصدر غذائي غني بالطاقة، لم يكن أمامهم سوى القبول بعروض الدعاة وأخذ الحلاوة كجزء عيني من أجورهم مقابل تبديل معتقداتهم الدينية!

هكذا كان الأميركيون يأكلون عقول العرب بالحلاوة طوال سبعين عاماً، وهكذا يفعلون الآن في هذه اللحظات حتى مع «المقاومين الممانعين» من أجل استكمال عملية ... «الدفرسوار الفلسطيني» الذي سيعبره الإسرائيليون حتماً ... من غزة إلى «الضفة الغربية»، ولكن ضفة نهر الأردن وليس ضفة السويس هذه المرة (يا لمُكْر التاريخ والجغرافيا ومفارقات اللغة!)، كما فعلوا في كل حرب خاضوها معنا وعلينا!


الهوامش

(1) ـ بالمناسبة، ليست مصادفة أبداً أن «وكالة المخابرات المركزية»، وبالتزامن من الإعلان عن استئناف المفاوضات في الدوحة أول من أمس، أعلنت أن جائزة «جورج تينيت للتعاون الأمني» السنوية، التي تمنحها الوكالة لعملائها وجواسيسها حول العالم، تَقرر أن تكون هذا العام من نصيب العميل والجاسوس الأميركي – الإسرائيلي المجرم «عبد الله بن محمد الخليفي»، رئيس جهاز مخابرات أمن الدولة في قطر. وليس هذا – بطبيعة الحال- سوى تكريم له على الأدوار الإجرامية التخريبية التي قام بها في خدمة «الوكالة» و«الموساد» و«الأخوان المسلمين» وكل أشقياء العالم، من أفغانستان شرقاً إلى الجزائر غرباً، مروراً بسوريا وفلسطين ولبنان وسواها، بما في ذلك دوره في تحويل قناة «الجزيرة» نفسها إلى أكبر وكر لـCIA والموساد في وسائل الإعلام العالمية. فبحسب تقرير داخلي بريطاني للجنة الدفاع في «مجلس العموم»، تقدر المخابرات البريطانية أن نصف موظفي «الجزيرة» على الأقل ، بطبعتيها العربية والإنكليزية، يعملون مع أجهزة استخبارات أجنبية ، بما فيها الموساد و الـCIA وMI6 ، فضلاً عن أجهزة المخابرات القطرية والعربية بطبيعة الحال!

(2) ـ في تفاصيل ذلك، وخفايا تجنيد الجاسوس السعودي / اللبناني «جميل بارودي» وكيفية اكتشافه، والدور القذر الذي قام به خلال حرب أكتوبر، راجع « فيكتور إسرائيليان: داخل الكريملن خلال حرب أكتوبر وما بعدها، وثائق ومحاضر سوفييتة وألمانية شرقية يكشف عنها للمرة الأولى»، المجلد الأول، لندن 2021، ص 451-454. (متوفر على الإنترنت).

(3) ـ عن التواطؤ والتآمر الخياني الذي قام به هذا الوغد «سعد الدين الشاذلي» مع «السادات» و«أحمد اسماعيل علي»، من أجل تدمير الجيش السوري (باعترافه الشخصي) ، وعن هبله وغبائه و المستوى الوضيع الذي انحطّ إليه تفكيرُه العسكري، والذي وصل به حدّ الشروع بردم «قناة السويس» بالأتربة والرمال لكي تعبر قواته إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، بدلاً من الجسور/ الكوبريهات(باعترافه الشخصي أيضاً) ، وكيف ترك فجوة بعرض 40 كم بين الجيشين الثاني والثالث دون أي قوات أو غطاء لكي يعبر منه الإسرائيليون لاحقاً في منطقة «الدفرسوار» إلى الضفة الغربية للقناة، راجع المصدر السابق أيضاً، الذي يتضمن إحالات مرجعية إلى تلك الاعترافات في مؤلفاته بالعربية والإنكليزية، التي ربما لم يقرأها أو ينتبه إليها عربي واحد!!.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات