"الفنّانة" المصريّة إلهام شاهين مثال حيّ لطبيعة "الفنّ" و "الفنّانين" على امتداد الوطن العربيّ تقريبا. لماذا إلهام شاهين؟ لأنّها عبّرت عن استيائها العميق من إيقاف أحد المخرجين الذي تعدّ معه عملا "فنّيّا" و من تعطيل كامل الفريق من أجل أدائه الصّلاة في وقتها ! بل أضافت ما مفاده أنّ هذه الظّاهرة لم تكن موجودة (يجب أن لا توجد !)، وأنّها تُنذر بالخطر إذ تهدّد المجتمع المصريّ وفنونَه العظيمة !
يا حبيبتي، يا إلهام، قبل أن أقول لك ما أودّ قوله بالمناسبة سأذكّرك بصيحة مضادّة لكنّها تلتقي مع صيحتك في حجم التّطرّف مع فارق التّوقيت.
هذه الصّيحة حدثت في سوريّة (لا يقرأنّها أحد بالدّارجة التّونسيّة، فأنا أعني البلد العربيّ الجريح، ولا يعتبرنّ أحد أنّ في عبارة "الجريح" انتصارا لحاكمها المورَّث جمهوريّا)،، ففي عقود خلتْ زمنَ الخلافة العثمانيّة (يسمّيها بعضُ شركاء أوطاننا احتلالا يردّون إليه دون الاحتلال الغربيّ "الحميد" "المُضيف" "النّافع" شرورَ العرب قاطبة) حاول جدُّ الشّاعر نزار قبّاني أبو خليل قبّاني أن يكوّن فرقة مسرحيّة وأن يطوف بعُروضها دمشق وغيرها من أنحاء البلد لكنّ "المحافظين" اعتبروا ذلك تهديدا للعادات والتّقاليد وللسّائد من نواميس المجتمع الذي تنتفع بخيراته قلٌّةٌ قليلة هي هؤلاء المحافظين فأرسلوا رسولا إلى الأسِتانة (إسطنبول الحاليّة) وحمّلوه رسالة يقول نصّها: "أدركْنا يا أميرَ المؤمنين فإنّ الفسادَ قد عمَّ البلادَ" قبل أن يُطلقوا على أبي خليل الصّبْيةَ يرشُقونه بالبَنَدورة (حبّات الطّماطم) ممّا اضطرّه إلى الهروب إلى مصرِكِ حيث وجد متّسعا لتحقيق حلمه في ظلّ حكم محمّد علي باشا…
يا صاحبةَ العمر المديد والأعمال السّاخنة والمواقف السّياسيّة اللّاإنسانيّة (يروج أنّك حلمتِ بأنّك دبّابة يركبها السّيسي ويقاتل الأعداء. والكلّ يعلم يقينا، إن ثبتت حكاية هذا الحلم، أنّ الأعداء ليسوا مغتصبي سيناء بل غرماء سياستك وفكرك الذين تخشيْن أن يقطعوا ضرع وزارةِ الثّقافة بقرتِك الحلوبِ الذي نزّ قيْحا ودمًا من فرط استنزافكِ له كما يفعل أمثالُك في أغلب بلداننا العربيّة لبقرات دولهم وأوطانه).
لستُ ضدّ الفنّ، فأنا أعُدّه بانيًا للحضارة البشريّة ومشيِّدا لرقيّ المجتمعات، وقد أعدتكِ إلى أبي خليل ومِحنتِه بهذه القناعة، لكنّني ضدّ كلّ فنّ مائع مميِّع كالذي تصنعونه في بلداننا المذكورة ليضرب الأخلاق والقيَم في مقتل فيؤدّي رسالة عكسيّة يغتبط لها أعداء الأمّة وأبرزهم ذلك الذي يتوسّد ركبتيْك الضّخمتيْن أو تتوسّدين ركبتيْه النّحيلتيْن لست أدري (دلالة على القرب الجغرافيّ وغير الجغرافيّ سيّدتي الدّبّابة المقاتِلة من أجل الإبقاء على وضعِ بلدٍ تستفيدين فيه وبه ومنه كثيرا استفادةً مادّيّة ومعنويّة شخصيّة على حساب شعب يأكل من القُمامة).
قديما قال شاعرٌ يا "فنّانتي المنزعجة":
إِذا كانَ مَدحٌ فَالنَسيبُ المُقَدَّمُ
أَكُلُّ فَصيحٍ قالَ شِعرًا مُتَيَّمُ؟
وقياسا على الصّدر (أقصد طبعا صدر البيت الشّعريّ، لا صدور "الفنّانات"، فهي متروكة للأعمال المعدودة فنّيّةً وللممثّلين المعدودين فنّانين وللمخرجين الذين لا يصلّون) أقول لك:
إذا كان فنٌّ فالتّمييعُ المقدَّمُ؟
كم سألتُ نفسي: لماذا لا نرى فنّا، في التّمثيل وغيره، راقيا وظيفيّا يؤدّي رسالة توعية المجتمع وتحسيسه بقضاياه الوطنيّة والإقليميّة والعالميّة دون السّقوط فيه وبه في مستنقع الفساد والإفساد والتّخريب الممنهَج ؟! لماذا فررنا من عصبيّة المحافظين في قصّة مسرح دمشق القديمة فسقطنا في وحشيّة أو حيوانيّة فنّكم المؤسَّس على امتهان جسد المرأة وعلى البذاءة والرّداءة والابتذال في اختصاصك وغير اختصاصك من بقيّة أنواع الفنون؟! لمَن نشكو حالَنا إزاء ما تقدّم تشخيصُه؟ أنحسدُ أهلَ سوريّة في الحقبة البعيدة أنْ وجدوا من يستغيثونه رغم عدم وجاهة استغاثتهم التي ذكرتُ؟! كيف تستكثرين على المُخرج أداءَ صلاته وتعتبرينه إجراما في حقّ العمل الذي تضيفينه إلى رصيدك الحافل المزدهر المزدحم ؟! في أيّ بقعة من الأرض نحن؟! لماذا لم نسمعك تحتجّين على مخرجين نعرفهم ونعرف علاقاتهم معك ومع زميلات مهنتك يقطعون العمل أيّاما ولياليَ لنيْل مقابل تمكين هذه أو تلك من مجرّد دور ثانويّ في هذا العمل "الفنّيّ" أو ذاك ؟! علامَ الجزَعُ من صلاة لا تستغرق أكثر من عشر دقائق يمكن خلالها أن تعانقي قهوةً وسيجارة وما شئت أن تعانقي؟! ألستِ باحتجاجك وتخوّفك هذين أشدّ تخلّفا من باعثي رسول الأستانة وبُراقه مع إيماني الوثيق بأنّ وراء أكَمَة احتجاجك ما وراءه من وعي مشوَّه ونيّة مبيَّتة باتَا مكشوفيْن هنا وهناك للعالِم والجاهل؟! هل من المَعيب أن ينشأ بيننا فنّان يؤدّي فرائضه الدّينيّة في مصر وغيرها من أمصار "خير أمّة أُخرِجت للنّاس"؟!
في أعراسنا الرّيفيّة أيّامَ طفولتي، "بْرَنْسيسَة" إلهامْ، كان ضاربُ الطّبل يردّد عبارةً ما يزال صداها يرنّ في أذني:" أعْطونا الرّياضْ (= الهدوء) نعْطوكمْ الفنّْ". فكان إذا اشتغل وفرقتَه نخشع ونستكين رغم ما يقدّمونه من شيء سمّيه ما شئتِ إلّا فنًّا !
ها نحن "رائضون" (بالتّونسيّ الدّارج) مروَّضون فهاتي "فنّك" غيرَ المقطوع بصلاة المخرج أو المصوّر أو حتّى "الكومبارص"، فالصّلاة تقتل فيه الإبداعَ والجاذبيّة المألوفيْن فلا يقبل عليه المستهلكون بالشّهيّة التي تريدين ويريد أمثالُك في كلّ قُطر !!!