اذا كانت شكوى حمس والافافاس مقبولة، فكيف نفسر انضمام حملة تبون إليها؟ اي ما هو الأمر الذي لم يعجب حملة تبون في نتائج هذه الانتخابات؟ نظريا لاشيئ، فكل النتائج جاءت متوافقة مع المقدمات والترتيبات الموضوعة منذ 2019. بما في ذلك نسبة المشاركة. يبدو ان هذه الأخيرة هي سبب كل هذا الجدل وسبب انضمامه الي فريق الممتعضين والمحتجين. ولكن ماذا مان يريد تبون؟ نسبة مشاركة اكبر؟
تعتقد السلطة انها قدمت ومنت علي الجزائريين الكثير : منحة بطالة، برنامج عدل، عدم رفع الدعم عن السميد والزيت والسكر، رفع الاجور، محاربة المضاربة، محاربة الحرائق، استرجاع الاموال.... وتنتظر بالمقابل مشاركتهم وانضمامهم الي الانتخابات. وتعتقد انها وضعت للجميع اطارا للانضمام إليه: مجلس الشباب، مرصد المجتمع المدني، ذزدينة من الاحزاب المساندة، نقابات، زوايا.... كما انها قامت بحملات تحسيسية واسعة قادها مجلس الشباب والأئمة، والدكاترة والصحفيون... في نظر السلطة قامت بكل شيئ من اجل ان ينتخب الجزائريون وبقوووة…
ولكن
فعل الانتخاب في تصور السلطة ليس فعلا سياسيا ..بل هو رد جميل..انه ليس اختيار بين برامج وايديولوجيات...بل هو واجب تجاه الدولة المغذية والراعية والسخية ... لا يهم السلطة علي من تنتخب...يهمها فقط انضمام الجزائريين الي العرس الانتخابي....وصوت لمن تشاء بما ان اللعبة مغلقة ومتحكم فيها...بل هي مقتنعة ان الجزائريون سيصوتون لمرشحها...فماذا قدم هذا الاوشيش او الحساني للجزائريين مقارنة مع ما قدمته الدولة(المرشح الحر) ؟
تبدأ المصيبة حين لا تجد السلطة طوابير وتدافع للمواطنين امام مكاتب الانتخاب لتصويرهم ...فذلك يخلق مشكلة ..لا توجد صور لعرضها امام اعداء الداخل والخارج لنثبت لهم ان الجزائريين متحدين وراء قيادتهم…
تعتقد السلطة ان غلق المجال السياسي سيساهم في رفع نسبة المشاركة لان التشويش علي خطابها سيقل و بالتالي سيقل عدد الجزائريين الذين يفسد النقد علاقتهم الوطيدة بدولتهم ( قيادتهم). العزوف والمقاطعة ليسا بفعل سياسي ولا موقف…بل هما بالنسبة للسلطة غياب وعي...وضعف الحس الوطني…وبالتالي فعلاجهما هو غلق المجال امام الاصوات المشوشة والناقدة والحاقدة من جهة، واكثار الحملات التحسيسية من جهة اخري…
تحاول السلطة معالجة مشكلة المقاطعة والعزوف بنفس الآلية التي تعالج بها عزوف الناس عن التلقيح ضد كورونا او انلفوزا الطيور : حملات تحسيسية.. في الثقافة السياسية للنخب الحاكمة، لا وجود للسياسة. تتصور المجتمع اخوة واخوات يطيعون الاخ الأكبر ( العم الذي يخلف وفاة الأب). لا وجود لاختلافات وخلافات بين الجزائريين الا تلك التي يخلقها اعداء الداخل والخارج.
منصب رئيس الجمهورية هو رمز للوحدة الوطنية، والمشاركة في تزكيته واجب وطني وليس فعل سياسي ...تقوم الشعبوية علي نفي السياسي la négation du politique وهذا ما تقوم به السلطة الحالية: حتي وان كانت الحملة الانتخابية تعددية ( ثلاث مرشحين من تيارات مختلفة) الا انها كانت خالية من السياسة، ولا يمكن ان يكون هذا صدفة، بل هو شرط الدخول في لعبة سياسية منزوعة السياسة un jeu politique dépolitisé...ولو لا الحرج الذي تسبب فيه دستور فبراير 1989 الملعون ....لكانت السلطة نظمت استفتاء مباشر. الانتخاب هو فعل لا سياسي un acte apolitique
هناك هوة شاسعة بين المجتمع و بين النخب الحاكمة. هوة جيلية، هوة في الثقافة السياسية، اختلاف في تصور الدولة، المؤسسات، والسياسة... حاول المجتمع عبر الحراك السلمي تحيين المؤسسات ونظام الحكم بما يتوافق والتحولات التي حدثت فيه و بلغها، وبما يتوافق و القوانين السارية المفعول، ولكن لم ينجح في ذلك...لان النخب الحاكمة واجهت هذه الطموحات و المحاولات بثقافة سياسية متحجرة، بدل ان تستجيب لتطلعات الأجيال الجديدة ، قامت بإخضاع ما هو موجود لثقافتها السياسية السبعينية ولتصوراتها الشعبوية للدولة والمجتمع.
لكن الخطر ليس هنا فحسب.
المشروع السياسي الشعبوي في سبعينات القرن الماضي كان متجانسا مع السياق الدولي آنذاك ومع الثقافة السياسية لعموم الجزائريين، وساهم الحماس الثوري الذي كان لا يزال مشتعلا في اعطاءه شرعية شعبية وحقق نجاحات في الكثير من الجوانب اهمها بناء مركز سياسي قوي( دولة وطنية موحدة ) ...كان الجزائريون يشعرون بصدق النخب الحاكمة في مشروعها آنذاك فانضموا اليه بحماس …
اما اليوم، فمعظم من يستقطبهم هذا الخطاب وهذا المشروع هم المتملقون والزبائن والوصوليون و المستفيدون واصحاب المزايا والامتيازات والمصالح بعض السذج والمغرر بهم بخطاب الدعاية.... وهؤلاء مهما كان عددهم كبير فلن يزيد عن 12 % من مجموع الجزائريين …
دون رد الاعتبار للفعل السياسي، فتستمر الهوة بين السلطة والمجتمع. ان البديل عن إلغاء السياسة ومنعها هو التطرف والعنف. يستثمر المتطرفون و الايديولوجيات الراديكالية و العنيفة في الهوامش التي تنتج من غلق الفضاءات امام الناس. ان الجبهة الاسلامية للإنقاذ المنحلة في التسعينات هي افراز طبيعي لشعبوية الثمانينات و انحراف المشروع التحديثي نحو الزبونية و الباتريموتيالية و سطوة الوصوليون و اصحاب المصالح علي الدولة باسم الوطنية ..
من دون تحيين المؤسسات لتتوافق وتطلعات الجيل الحالي، ستبقي هذه المؤسسات هياكل فارغة، و سيسطوا عليها الوصوليون و الفاسدون الذين يغيرون كتف البندقية حيثما تكون مصالحهم....
ان نتائج هذه الانتخابات فرصة ثمينة لرد الاعتبار للفعل السياسي السلمي التعددي، فوحده فقط يضمن انخراط كل الجزائريين في عملية بناء الدولة و حمايتها من كل الاخطار التي تتهددها …