لنعترف أولا أن الانقلاب تسرّب بين شقوق الأبنية الحزبية المتصدّعة المتداعية. متصدعة بحكم تآكل شرعيات تأسيسها كلها، فالاجتماع السياسي التونسي ابتعد تماما عن يوتوبيات دولة الإسلام ودولة الوحدة والدولة الشيوعية، ولم يبق يشده إلى التاريخ سوى عاملان: "بيروقراطية الإدارة" التي ظلّت تضبط الحد الأدنى من السلام المجتمعي والتعايش الاضطراري بين أفراد مجتمع شبه أمي وعنيف، وبين معسكرات الايديولوجيا المتناقضة وجوديا. والعلاقات القرابية الأولية.
ورغم أن الثورة أتاحت لتيارات الفكر والسياسة المتناقضة فرصة إرساء الديمقراطية باعتبارها أرقى أشكال التدبير العقلاني الحديث للاختلاف في مقاربة الشأن العمومي، إلا أنها كلها (ولا يهم الاختلاف في الدرجة هنا لأن النتيجة واحدة) دخلت الديمقراطية بعقلية الحسم النهائي لتناقضاتها القديمة البائسة، فكان الانقلاب استثمارا ناجحا في فوضى معاركها اللاتاريخية (نقول هذا لا لتبريره بل لتحديد المسؤوليات. ونحن نعلم أن الانقلاب على الثورة انطلق منذ اليوم الأول لهروب بن علي).
إذن.. منذ انقلاب 25 انتهت الأحزاب في الواقع. لم يعمد الانقلاب إلى سحب تأشيراتها القانونية ولكنه استعاض عن ذلك بغلق المجال العام بسلسلة من المراسيم والإجراءات المجرّمة للفعل السياسي. والنتيجة أنه حظر نشاط الأحزاب فعليا، مع إضافات خاصة بالنهضة التي أغلق مقراتها وقصقصة أجنحتها باعتقالات مركّزة استهدفت العناصر المفاتيح فيها. أما الأحزاب القليلة التي غضّ عنها الطرف فقد كانت إما مساندة له أو هامشية لا وزن لها في الواقع.
ولم يكن غريبا أن تستسلم الأحزاب إلى حكم الإعدام الذي أصدره ضدها الانقلاب، فقد كانت جاهزة تماما لكتابة نهايتها.
يكفي أن ننظر إلى الفوضى والارتخاء والبهتة التي حكمت تعاملها مع الانتخابات الأخيرة لنفهم أنها صارت من الماضي.
لذلك…
أنا أراهن الآن على إعادة انتشار استراتيجي هادئ لمن سيظلّ يرى السياسة التزاما أخلاقيا يمارس بمقتضاه إنسانيته الفردية والجماعية. إعادة انتشار بهدف إعادة تأهيل فكري ضروري، لأن كل من مارس السياسة خلال العقود الماضية سيخرج منها معطوبا في جسده أولا، وفي جهاز تفكيره، وفي توازنه النفسي بما يجعله عبئا على الزمن السياسي الحالي والقادم.
لنتفق أن إعادة تكوين أحزاب على النمط القديم أو الاحتفاظ بما بقي منها صار عبثا. إذ تلك أحزاب صنعت لُحمتها بفضل الإيمان العقدي التبشيري بيويتوبيا كبيرة وبفضل الملاحقة الأمنية السجون، والسرية التي تجعل من المناضل الذي يمتلك المعلومة السياسية وينجح في التخفي عن عيون الدولة أو عدم إفشائها تحت التعذيب بطلا خارقا، في حين أننا الآن في زمن الانكشاف المعلوماتي التقني الكامل أمام أجهزة السلطة وأجهزة العالم.
التسيس المطلوب الآن يجب أن يكون بوعي "كلّي" وبممارسة جزئية جدا. أي عليه أن يكون تسيسا "أكاديميا" متسلحا بالمعرفة المتخصصة ليعي أنه يواجه الدولة/العالم. فالدولة المحلية ليست إلا جزءا من شبكة هيمنة رأسمالية معولمة تستهدف الفرد والجماعات أينما كانا في كل حقوقهما الأساسية الأولية. ولكن مواجهتها تقتضي نضالا محليا جدا بالانتظام في نقابات قطاعية مناضلة تدافع عن المكتسبات الأساسية للعمال المهددة الآن بالتشغيل الهش المهين وبتفاوت طبقي مريع يُفرغ المجتمعات من إنسانيتها وبنسق جنوني لاستغلال لثروات الأرض يهدد بتدمير الحياة.
العمل النقابي الذي تشوه جدا في تونس هو الحلقة الأولى عندي لإعادة فكرة التضامن المجتمعي والنضال الحقوقي الإنساني.
أما العمل السياسي بما هو انخراط دائم في تشكيلات سياسية مطالبة بدوام كامل في السياسة فأظنه قد فقد معناه. فقط المشاركة في الانتخابات (البرلمانية والبلدية أساسا)، ورغم أنها الآن صارت شكلية ومفرغة من المعنى، فيمكن خوضها مناسباتيا ضمن مبادرات مواطنية محلية متعددة الأشكال (رابطات قروية أو ائتلافات مهنية) تمهيدا لاستعادتها.
هل ستسمح السلطة التي تمتلك الآن كل مقومات الاستبداد بهذا التسيّس العلني الجزئي الذكي..؟ سيكون ذلك بثمنه طبعا، شأن الحرية الحمراء دائما.
ختاما.. يأمل البعض في أن انفجارا اجتماعيا عنيفا وفوضويا قادما حتما، احتجاجا على فشل السلطة في تلبية حاجات الناس المعيشية، سيكون إيذانا بعودة المنتظم السياسي القديم المنكفئ الآن تحت ضربات القمع إلى الحكم.
للأسباب التي ذكرت أعلاه.. أقول أن الأمر مستحيل ولاتاريخي.
والسلام.