ملاحظات على الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة

لم تكن النتيجة مُفاجئة. إنّ الظنَّ بأنّ هاريس هي الفائزة (وهذا الانطباع كان سائداً في لبنان والعالم العربي) مردُّه إلى قدرة العرب على متابعة أخبار أميركا عبر الصحف الكبرى. ينسى المتابعون حول العالم أنّ هذا الإعلام الأميركي («نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» والشبكات النافذة) هو إعلام منحاز بالكامل (للديموقراطيّين) وغير مهني، ويخلط بين التغطية الإخبارية وبين الهوى السياسي أو الشخصي. الإعلام هذا يمقتُ ترامب ويصرُّ على أنّه لا يمثّلُ الكثير في أميركا؛ ولهذا يسهُل على اللّيبراليّين إهانة جمهوره بعبارات مبتذلة ومُهينة. مايكل بلومبورغ كتب في تحليل الانتخابات أنّ «معظم الأميركيّين» يمقتون ترامب. هذا عن رجل نال تفوّقاً على منافسته بملايين الأصوات. اللّيبراليّون يرَون العالم عبر انحيازهم، ومن دون الأخذ في الحسبان عناصر أخرى في السياسة، والتي يمكن - بناءً عليها - فهمُ ظاهرة ترامب التي بقيت عصيّة على الإخضاع أو الإفناء. ترامب لم يعُد إلى البيت الأبيض، بل هو عاد متحدّياً كلّ ما قيل عنه، وبات يمتلك مقدّرات السلطات الثلاث.

أولاً، فوز ترامب هو ضربة لكلّ الفرضيّات اللّيبراليّة عن أنّ ظاهرة ترامب ظاهرة عابرة أو غريبة عن المجتمع الأميركي. ترامب هو ظاهرة أميركية بامتياز، وهو نتاج القلق العنصري الأبيض من تنامي نفوذ الأقليّات (وهذا التنامي مُبالَغ فيه عند العنصريّين البِيض). ترامب ليس استثناءً أبداً. هو نتاج منطقي لمسار أيديولوجي وعنصري بدأ بظاهرة رونالد ريغان، وإنْ كان ترامب سيتخطّاها في بناء حركة جماهيريّة.

ثانياً، كامالا هاريس قد تكون أسوأ مرشّحة ظهرت على مدى عقود. هي جاهلة بملفّات السياسة العامّة، وكسولة ذهنيّاً ولا تدرس الملفّات مثل هيلاري كلينتون المجتهدة، كما أنّها غير مهتمّة بالشأن السياسي. هي كانت سيناتورة من ولاية كاليفورنيا، وكانت في جلسات الاستماع تعجز عن سؤال الشاهد سؤالاً واحداً من دون قراءة ما كان يكتبه مساعدوها لها على ورقة. وعندما خاضت معركة الترشيح ضد بايدن في 2020، ظهرت كالأقلّ قدرة من بين كلّ المرشحين والمرشحات، فاضطرّت إلى الانسحاب مكسورةً. ترامب كسول ذهنيّاً أيضاً، ولا يدرس الملفّات، لكنّه أكثر قدرة منها على التعلّم السريع لشؤون السياسة العامّة، كما أنّه لا يخشى مواجهة الإعلام.

ثالثاً، إن اختيار هاريس للترشيح الرئاسي كان عملاً غير ديموقراطي. المشكلة أنّ الحزب الديموقراطي لم يكن يريد معركة، ولم يكن يريد أن يخوض في معترك ترشيحات في الحزب لاختيار مرشح. هو فضّل مرشحاً (بايدن) ظهر عجزُه العقلي في السنة الأولى من رئاسته. أي إنّ قيادة الحزب الديموقراطي غطّت على الوهن العقلي لبايدن، والصحافة اللّيبراليّة تواطأت مع الحزب في نشر مقالات كاذبة عن سلامة بايدن العقليّة وعن شدّة تركيزه وشبابه في الثمانينيّات من عمره. هذه فضيحة لم نعلم كلّ أبعادها بعد. من الأكيد أنّ مؤامرة التغطية على وضع بايدن العقلي لم تفترض أنّ مناظرة واحدة كانت كفيلة بتبديد كلّ الأكاذيب عن سلامته العقليّة.

رابعاً، حقّق ترامب توسيعاً هائلاً لقاعدة الحزب الجمهوري. هو لم يكتفِ بضمان تأييد البِيض (هو نال أكثرية ساحقة من البِيض الذكور، وأكثرية بسيطة من البِيض من النساء - وفي معركة تنافسه فيها امرأة) بل جذب الملوّنِين إليه. ترامب لم يكتفِ بزيادة شعبيّته في الولايات الحمراء (أي الولايات المضمونة اقتراعياً للمرشح الجمهوري، وهي ولايات الريف ومناطقه، والمناطق الزراعيّة، أي معظم أنحاء البلاد) بل هو زاد من شعبيّته بين السُّود وذوي الأصول اللاتينيّة، خصوصاً الذّكور منهم ونال 65% من أصوات السكّان الأصليّين. هو نال 55% من اللاتينيّين الذكور، و20% من السُّود الذكور. هذه نِسب مذهلة ولم يسبقه أيُّ رئيس جمهوري إليها، ولا حتى جورج بوش الذي نال من أصوات ذوي الأصول اللاتينيّة أكثر من غيره من الجمهوريّين. حتى بين النساء من الأصول اللاتينيّة، كان أداؤه أفضل. هذا تغيير ديموغرافي هائل ويُنذر بأنّ محاولة الصحافة اللّيبراليّة تصوير معاداة الهجرة (الشرعية وغير الشرعيّة) على أنّها موقف عنصري من البِيض لم تقنع كلّ السُّود واللاتينيّين الذّكور (حتى وإنْ كانت الفرضيّة صحيحة بالنسبة إلى أصل العداء العنصري ضدّ المهاجرين).

خامساً، فشلت هاريس في بلورة برنامج مبسّط يسهُل شرحُه أو عرضُه للجمهور. السبب في الفشل يعود لكسل المرشحة وعجزها عن استيعاب مواضيع السياسة العامة. هذه مرشّحة لا تستطيع أن تتحدّث إلّا بالعموميّات. طبعاً، ترامب هو أيضاً لا يتحدّث إلّا بالعموميات، لكنّه، على الأقل، يستطيع أن يتحدّث بعفويّة وبمفاهيم يسهُل استيعابُها من الناخب. هاريس بدت حائرة في أمرها، كلّ أسبوع تطرح مشروعاً جديداً من دون ترابط رؤية بين المشاريع المتعدّدة التي كان كلّ واحد منها يهدف إلى زيادة شعبيّة في فئة ديموغرافيّة ما.موضوع السياسة الخارجية لم يستحوذ إلّا على اهتمام نحو 4 % من الناخبين والناخبات. هذا العنصر كان مؤثراً في ولاية ميشيغان حيث الجالية العربيّة (معظمها من اللّبنانيّين الجنوبيّين واليمنيّين). وموضوع الإبادة أثّر على حظوظ الحزب الديموقراطي في غير ولاية.

سادساً، هناك ثورة في أميركا وحول العالم ضدّ البرنامج الثقافي اللّيبرالي. يصرّ اللّيبراليّون الأميركيون على نشر موقف واحد من النسويّة وحقوق المثليّة والمتحوّلين جنسيّاً، وجعلِ هذا الموقف مقياساً أخلاقيّاً. هناك تمرّد كبير في أميركا خصوصاً ضدّ هذا الموقف الذي يخلّ بمشاعر الملايين الأخلاقيّة والدينيّة، وترامب هو المعبِّر عن هؤلاء المتمرّدين. موضوع الإجهاض مثلاً أصبح عنواناً أهمّ عند اللّيبراليّين من حقوق المرأة في العمل والعيش بكرامة، على أهمية موضوع حقّ الإجهاض. وأحد أسباب انخفاض نسبة تأييد ذوي الأصل اللاتيني للحزب الديموقراطي من نحو 65% في عهد أوباما، لنحو النصف في هذه الانتخابات، يرجع إلى نفور الجالية هذه من المواضيع «الثقافيّة-الاجتماعيّة». الجالية محافظة في مواضيع القيم الاجتماعية والأخلاق، لأنّها مُستقاة من الدِّين المسيحي. والرجال السُّود ينفرون أيضاً من هذه المواضيع التي لا يرَونها منسجمة مع تربيتهم.

سابعاً، السياسة الخارجيّة ليست أبداً مُقرِّرة للسلوك الاقتراعي الأميركي. المواضيع التي تشغل الأميركيّين، حسب استطلاعات الخروج (أي تلك التي تجريها شركات متخصّصة كي تسأل الناخبين بعد خروجهم من مراكز الاقتراع عن مُسبّبات تصويتهم وتأثيراته) هي الاقتصاد والتعليم والمهاجرين والصحّة وحقّ الإجهاض (عند اللّيبراليّين والوسطيّين). وفي هذه الانتخابات، برز عنصر جديد وهو صحّة النظام الديموقراطي نفسه. لكنّ تأييد هاريس لهذا الموضوع لم يكن كافياً لفوزها، لأنّ تخويفها الناخبين من ترامب لم يفعل فعله، ولم يستطع الحزب الديموقراطي إقناع الناخبين بأنّه فاشي (أو ربّما لأنّ الفاشية عند جمهور ترامب ليست سُبّة). موضوع السياسة الخارجية لم يستحوذ إلّا على اهتمام نحو 4% من الناخبين والناخبات. هذا العنصر كان مؤثراً في ولاية ميشيغان حيث الجالية العربيّة (معظمها من اللّبنانيّين الجنوبيّين واليمنيّين). وموضوع الإبادة أثّر على حظوظ الحزب الديموقراطي في غير ولاية. علينا أن نحفظ هذا الرقم: 68% من قاعدة الحزب الديموقراطي ترى أنّ أميركا ملتصقة بإسرائيل أكثر من اللّزوم. أي إنّها تنشُد تخفيضاً في نسبة التأييد الأميركي لإسرائيل. والتعصّب الأميركي في دعم حرب الإبادة أبعد الكثير من الشباب التقدّميين عن الحزب الديموقراطي وكلّفه أصواتاً، أو أنّه أقنع عدداً من الشباب بأفضليّة التزام المنازل لأنّ المرشحة لا تستحقّ دعمهم. في المقابل، يرى 81% من الجمهوريّين أن التأييد الأميركي لإسرائيل ليس قويّاً بما فيه الكفاية. أي إنّ الإدارة الديموقراطيّة الحاليّة تمثّل قاعدة الحزب الجمهوري أكثر ممّا تمثّل قاعدة الحزب الديموقراطي. السياسة الخارجية لا تؤثّر على السلوك الاقتراعي، لكنْ في عدد من الولايات قد تكون مؤثّرة لمصلحة هذا المرشح أو ذلك في ولايات متأرجحة.

ثامناً، التضخّم وأسعار الحاجيات المنزلية أثّرت على السلوك الاقتراعي. لم أسمع طوال حياتي التعليميّة (على مدى 36 سنة) شكاوى من الطلاب عن ارتفاع أسعار الحاجيات المنزليّة كما سمعتها هذه السنة. هناك ارتفاع هائل في الأسعار، والجمهور الاقتراعي يفضّل عادةً الحزبَ الجمهوري على الديموقراطي في إدارة الاقتصاد، خصوصاً إذا كانت الإدارة الحالية - في مرحلة ما - عاجزة عن تحسين الوضع الاقتصادي (هذه شكّلت مقتَلة لحظوظ جيمي كارتر في انتخابات 1980). طبعاً، يبالغ الأميركيّون في دور الرئيس في تحسين أو تردّي الوضع الاقتصادي. هناك عوامل عدة تؤثّر على الحالة الاقتصادية والكثير منها - مثل أسعار النفط وتأثر المنتوج الزراعي بالكوارث الطبيعية - لا قدرة للرئيس على التحكّم فيها.

تاسعاً، الديموقراطية الأميركية تزداد هشاشة بسبب انعدام الثقة بسلامة العملية الانتخابيّة، وبسبب الانشطار العميق في المجتمع الأميركي. إنّ تبادل التشنيع والإهانات بين المرشحين لا يبشّر بتعايش سلمي بين الحزبَيْن في السنوات المقبلة. لا نستطيع التنبؤ بشكل السِّلم الأهلي لو أنّ ترامب سقط في الانتخابات. رأينا مشاهد اقتحام الكونغرس في المرّة الماضية، وكان يمكن تكرار هذا المشهد هذه السنة.

عاشراً، النظام الانتخابي الرئاسي عقيم وغير صالح للمستقبل. هناك أوّلاً حاجة إلى توحيد معايير الاقتراع وعدّ الأصوات في كلّ الولايات حتى لا تتكرّر مهزلة انتخابات 2000. كما أنّ نظام الكلية الاقتراعية غير سليم، خصوصاً أنّ الانتخابات باتت تتركّز على بضع ولايات متأرجحة. لو أنّ لـ 48 ولاية تعتمد النظام النسبي في توزيع الأصوات الاقتراعية كما في حالة ولاية مَيْن ونبراسكا، يمكن استحداث نظام أكثر عدلاً، ونظام يزيد من نسب الاقتراع. ليس من العدل أنّ الذي يحصل على 40% من أصوات الولاية يكسب كلّ الأصوات الاقتراعية للولاية حتى لو أنّ المنافس نال 39% من الأصوات.

حادي عشر، الديموقراطية في الدول الغربية ناقصة. ترامب محكوم بجُنحة، وهو يواجه محاكمات في قضايا فدرالية وخاصّة بولاية، ولكنّه لن يُحكم بعقوبة ولن يُلاحق (وزارة العدل أعلنت للتوّ إنهاء ملاحقة ترامب في قضايا فدراليّة). العدل لا يسري على الجميع بالتساوي أبداً. والعُرف الأميركي يقول إنّ وزارة العدل لا تلاحق رئيساً حالياً أو سابقاً. بعض الاتهامات التي لحقت بترامب تؤدّي إلى عقوبة السجن (في إسرائيل المهزلة أكبر: هناك قضايا فساد متعدّدة تلاحق نتنياهو ولم يجرؤ القضاء على ملاحقته أو محاكمته أو إصدار عقوبة ضدّه. هو يهزأ من المحاكمات، فخرج مرّة من المحكمة معترضاً على كلام القاضي. لكنّ إسرائيل هي مسخ ديموقراطي ويسري على اليهود، لكنْ ليس بالتساوي).

علّقت صديقة عربيّة هنا على الانتخابات الأميركيّة بأن تأثير الانتخابات الأميركية على العرب أكبر بكثير من تأثير الانتخابات التي تجري في الدول العربيّة، باستثناء لبنان. الرئيس الأميركي، بسبب القوّة المسلّحة والسلبطة الدوليّة، هو رئيس للكوكب؛ ولهذا إنّ كلّ الدول تتابع من كثب نتائج الانتخابات الأميركيّة لأنّها ستؤثّر على شعوبها. إنّ المقارنة بين هذا المرشح أو ذاك، بالنسبة إلى العرب، هي مقارنة بين عدد القنابل التي ستنهمر على رؤوس العرب والمسلمين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات